لا يزال الجدل على أشدّه بين المسلمين منذ عقود طوال حول دور الدين في الدولة والمجتمع؛ وما إذا كان هذا الدور ينحصر بين جدران المساجد، وسريرة المسلم؛ أم يمتد ليغطي جوانب الحياة كافة. إلا أن ما يهمني وما سوف ينصبّ عليه هذا المقال هو إزالة اللبس حول مفهوم حاكمية الدين وتوضيح هذه الفكرة ورسم معالمها وحدودها؛ لأنني على يقين من أنه قد علِقت بها شوائب جمّة؛ الأمر الذي جعلها تتخذ أبعاداً متفاوتة في أذهان من يعنيهم هذا الأمر الجَلل. ويُعزَى هذا اللبس في نظري إلى ثلاثة عوامل رئيسة أعرضها فيما يلي: 1-تفريط من يعتقدون بحاكمية الدين لشتى مناحي الحياة وتقصيرهم في عرض رؤيتهم بطريقة واضحة ومحدّدة مصحوبة بنماذج من واقع حياتنا المعاصرة في شئون السياسة والاقتصاد...الخ؛ حتى ترتسم الفكرة في أذهان الناس واضحة جليّة ذات ملامح قاطعة وحدود لا تقبل التداخل أو الالتباس. 2-تشدّد بعض من يتبنون هذه الرؤية – حاكمية الدين – ومغالاتهم في توصيف جوهرها، بالإضافة إلى غِلظتهم وحِدّتهم غير المبرَّرة في طرح قناعاتهم؛ حتى أخافوا الكثيرين من الفكرة وأدّوا بهم إلى التوجّس ليس فقط من احتمالية الشّطط والإسراف عند تطبيقها وتحويلها إلى واقع ملموس؛ بل دفعوهم إلى النظر بعين الريبة إلى مضمون الفكرة ذاتها. 3-التشويه المتعمّد من قِبل بعض الأطراف التي تخدم مآرب خبيثة تتعدّى حدود ذواتهم ومجتمعاتهم؛ وأغلب الظن أن هذه الأطراف تعمل لأهداف شخصية ضيقة، وربما لا تعي حقيقة المآرب التي جُنِّدوا لخدمتها؛ بيد أنني لا أدّعي أن جميع من ينتقدون هذه الرؤية – أعني حاكمية الدين – ينتمون إلى هذه الأطراف أو الجهات التي تتحرّك في الظلام؛ بل على العكس فمنهم من يناهضها تنزيها للدين – في رأيه - عن الزّج به في ممارسات بشرية تنطوي في أغلب الأحيان على دناءاتٍ وصراعات غير شريفة وسلوكيات مُشينة من شأنها أن تُلحق الضرر لدى البعض بقدسية الدين وصورته النقيّة، فضلاً عما يرونه تداخلا مَعيبا بين الثابت والمتغيّر. وتبديداً لمخاوف المتوجسين، وتحسُّب المتحسِّبين، وإجلاءً للأمر على حقيقته فسوف أحاول في السطور القادمة رسم أبعاد الفكرة وتحديد ملامحها، قدر المستطاع، وأبادر فأقول أن الإسلام هو دين مُحكَم صالح لكل عصر ومصر؛ ولهذا فإنه حينما يتطرّق إلى الشئون الدنيوية أو الحياتية البحتة – بعيدا عن العبادات وما إلى ذلك - فهو فقط يضع ضوابط وحدود عامة دون أن يتدخّل في طبيعة الممارسة للأمر ذاته أو تفاصيله مثل كيفية تنفيذه، وتوقيته، ونتائجه...الخ؛ وسأعرض فيما يلي بعض الأمثلة من مجالات حياتية مختلفة نعايشها في واقعنا الحي المعاصر،حتى يستبين الأمر ويُزال الالتباس: 1-إذا ما تطرقنا إلى الموقف الروسي من مأساة الشعب السوري؛ فإنني أتساءل: هل يحق للروس، مبدئيا وأخلاقيا أن يسعون إلى تحقيق مصالحهم – إذا افترضنا أنها مصالح وليست أطماعا وسرقات – على أشلاء دولة بأكملها فيساعدون بعزم وإصرار على قتل مئات الآلف وتشريد الملايين من أبناء الشعب السوري في شتى بقاع الأرض، وتحويل دولة بأكملها إلى أنقاض؟؟؟!!! والأمر ذاته تقريبا مع غزو الأمريكان للعراق وتدميره وتشتيت شعبه، أو ما تبقى منهم بعد المجازر التي حصدت أرواح الملايين؛ وكل هذا بحجة تحرير الشعب العراقي من حكم الدكتاتور صدام حسين؛ وهي ذرائع لا تنطلي حتى على البلهاء؛ فمن الذي ساند صدام حسين وثبّت أركان حكمه وتحالف معه لعقود رغم علمهم الكامل بجرائمه؟ ولماذا سكتت أمريكا،ولا تزال، عن باقي الطغاة في العالم وما أكثرهم؟ بل وقوّت من شوكتهم ضد شعوبهم طالما أنهم لا يتوانون عن خدمة المصالح، أو بالأحرى الأطماع الأمريكية؟ وعلى رأس هؤلاء مبارك، وزين العابدين وغيرهم؟ فإذا قال الإسلام أن مثل هذه الأفعال محرَّمة مُجرَّمة وليست من السياسة في شيء أيكون هذا خلطاً للدين بالسياسة؟؟!!!! 2-وفي مجال الاقتصاد، ما الذي يطلبه الإسلام من رجل أعمال، على سبيل المثال، يمتلك مشروعات إنتاجية وتجارية؟ إن الإسلام يأمره بالابتعاد عن الرشاوى والمحسوبية، وألا ينتقص من حقوق عمّاله لنفسه أو يتعسّف في فصلهم، وألا يتاجر في ما حرّمه الله مثل الخمور والخنزير وكل ما يضر بالإنسان والبيئة، وأن يؤدي زكاة ماله؛ أما عن اختياره لأنشطة أو مجالات عمله، أما عن آليات تنفيذه لمشروعاته وتوقيتاتها، أما عن كيفية إدارته لأعماله...الخ فلا يتدخّل فيها الدين من قريب أو بعيد؛ وأستحلفكم بالله ما هو وجه التداخل هنا بين الدين والاقتصاد؟؟؟!!!! 3-ليسمح لي القارئ الكريم أن أتطرّق إلى مثال أكثر بساطة؛ حتى تتكشّف الصورة جيدا؛ عندما يتحدث الدين إلى أحد الطُّهاة "شيف" فبماذا يأمره؟ يقول له ألا يستعمل شيئا محرّما في مأكولاته، وأن يراعي قواعد النظافة التامة، وألا يُدخل في المأكولات التي يقوم بإعدادها مواد من شأنها الإضرار بصحة من سيتناولون طعامه؛ أما عن المقادير اللازمة لإعداد أحد ألوان الأطعمة أو المشروبات، أما عن طريقة إعداده للطعام، أما عن كيفية تقديم ما قد أعدّه، أما عن الأدوات التي يستخدمها في عمله؛ فليس للدين فيها مجال. ومما يدعو إلى الدهشة، وربما الصدمة أيضا، أن جميع العقلاء المنصفين ذوى الفطرة الإنسانية السوية يرفضون ما يرفضه الإسلام مما ذُكر آنفا؛ بيد أن نفراً ليس بالقليل منهم يرفضها انطلاقا من وحي الضمير والقيم الإنسانية المشتركة؛ أما أن تُرفض انطلاقا من مبادئ ديننا وشريعتنا فهو أمر مردود أو رفض مرفوض!!! وأتوجّه إلى هؤلاء وغيرهم بالقول أن حاكمية الدين لا تعني بحال من الأحوال أن يمارس الحاكم سلطاته بتفويض إلهي غير قابل للنقد والاعتراض؛ وأُذكَر هنا بمقولة الخليفة الأول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه – "أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم"، كما أن واحدة من نساء الصحابة اعترضت حديث عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – على منبر المسجد وراجعته ورجع عمر عن كلامه. كما أن الحاكمية لا تدفع إلى قيام سلطة دينية على غرار ما هو حادث في دولة الروافض "إيران" فليس في الإسلام ما يُعرف بولاية الفقيه. إن الفهم الصحيح لحاكمية الدين لمختلف الأنشطة البشرية؛ يتمثل في وضع ضوابط عامة بما يجعل الأمور تسير وِفقا لما يُرضي الله وفي ذات الوقت تحقق مصالح البلاد والعباد والتي يعلمها الله ويعلمها لنا؛ أما عن الممارسة والإجراءات والترتيبات والكيفية فلا يتدخل فيها الشرع الحنيف؛ فمن حق السياسي أن يناور كيفما شاء ووقتما شاء، يصرّح أو يلمح، يتحالف أو يستقل، يقدم أو يؤخر، يُعلن أو يُخفي...الخ؛ وللشعب أن يختار بين النظامين الرئاسي أو البرلماني، وله أن يحدد أدوات اختياره كالانتخابات والبرلمانات أو غيرها بما يتوافق مع متطلبات عصره ومقاييس واقعه؛ هذه الممارسات ومثيلاتها في مختلف المجالات مآلها في ديننا الحنيف إلى مضمون حديث أشرف الخلق – صلوات ربي وتسليماته عليه فيما معناه – "أنتم أدرى بشئون دنياكم"، وكفى.
*كلية اللغات والترجمة – جامعة الأزهر عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.