رحيل الملك عبد الله بن عبد العزيز ، يرحمه الله ، حدث بالغ الأهمية بالنسبة لمصر ، حكومة ومعارضة ، أنصار مرسي وأنصار السيسي ، وذلك بالنظر إلى ثقل الدور السعودي في تأثيره المباشر على الأوضاع في مصر ومنطقة الخليج العربي وتأثيره غير المباشر سياسيا وديبلوماسيا وعسكريا على المصالح المصرية في العواصم الدولية الكبرى ، كما مثل الملك عبد الله أهم وأبرز داعمي النظام المصري الجديد ، نظام يوليو 2013 الذي أطاح بالرئيس الأسبق الدكتور محمد مرسي ، بل إن الرئيس عبد الفتاح السيسي مدين للملك عبد الله إلى حد كبير بحماية نظامه من الانهيار بفعل التحديات الاقتصادية بالغة الخطورة التي كان وما زال يعيشها ، ويكفي أن التقديرات الشائعة للدعم السعودي لمصر منذ يوليو 2013 حتى الآن ، بلغ حوالي خمسة وعشرين مليار دولار ، في صورة هبات نقدية مباشرة أو ودائع أو دعم نفطي ومشتقاته ، وهو ما يعادل مرة ونصف حجم الاحتياطي النقدي لمصر بكامله ، وما زالت السعودية تمثل عامل الإنقاذ السريع خاصة في أزمات الوقود والغاز وما شابه ، وبالتالي فأي تغير أو اهتزاز في طبيعة العلاقة القائمة بين مصر والسعودية حاليا ، من شأنه أن يحدث تغييرات حاسمة وربما جذرية على الأوضاع في مصر . التعاطف السعودي مع حكم السيسي جاء في أجواء خليجية مشحونة بالقلق من تمدد نفوذ جماعة الإخوان في المنطقة محمولة بتيارات الربيع العربي ، حيث تصدر الإخوان المشهد السياسي بشكل صريح وقوي للغاية ، وأصبحوا في السلطة أو مرشحين لها في أكثر من بلد عربي مهم ، وخاصة مصر ، ومعها ليبيا وتونس واليمن فضلا عن حراك كان متعاظما في الأردن ، كانت الاستراتيجية السعودية في تلك الأثناء ترى أن الأولوية القصوى لأمنها القومي تتمثل في تحجيم نفوذ الإخوان ومحاصرته وضرب تمدده ، باعتباره تهديدا مستقبليا لاستقرار المملكة ، والخليج كله من بعدها ، نظرا للحضور الاجتماعي والسياسي والفكري والديني المهم للإخوان في تلك المنطقة ، فكان أن قاد الملك عبد الله والشيخ محمد بن زايد رجل الإمارات القوي حملة دعم وحماية النظام المصري الجديد بكل قوة وسخاء . القلق السعودي من خطورة التمدد الإخواني في المنطقة لم يضع في حسبانه توابع جانبية لهذا العمل يمكن أن تنتج عن حملة تصفية الإخوان أو إقصائها بشكل عنيف وشامل ، باعتبار أن الإخوان مثلت قوة اجتماعية وسياسية كانت تحفظ توازنا مهما في المنطقة طوال عقود ، وترتبت على هذا التوازن حسابات وشبكة علاقات كان ينبغي أن توضع في الحسبان ، وهو ما أدى إلى ظهور فراغات سياسية وفكرية واجتماعية في اليمن والعراق وسوريا ، وبقدر ما مصر ، ساعدت على ظهور خطرين أكبر كثيرا في تهديدهما للأمن القومي السعودي من الإخوان ، وهما تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" المتشدد في العراق وسوريا ، والتيار الحوثي الذي سيطر بالفعل على السلطة في اليمن ولا يخفي أنه امتداد سياسي وعسكري لإيران في جنوب جزيرة العرب كما لا يخفي عداءه الكامل للسعودية ، بل يرى كثير من المحللين أن إيران تستخدم تمدده في الضغط على السعودية في أكثر من ملف خاصة ملف النفط ، وكلاهما : داعش والحوثيين يمثلان تهديدا وجوديا للملكة ، وليس فقط تهديدا سياسيا أو أمنيا. النتائج الخطيرة ، والتي لم تكن في حسبان صانع القرار السعودي خلال العامين الأعوام الثلاثة الماضية ، تفرض على القيادة السعودية الجديدة مراجعات مهمة في موقفها تجاه الصراعات المتشابكة في المنطقة ، وفي اليمن تحديدا لا بديل أمام المملكة سوى أن تصحح مسار العلاقة مع الإخوان إذا أرادت تحجيم الخطر الحوثي ووقف تغوله وأيضا تهميش دور تنظيم القاعدة الذي استفاد هو الآخر من الفراغ السياسي في اليمن مع الحوثيين ، وفي العراق ستحتاج المملكة إلى مراجعة الموقف من الحالة الإسلامية المعتدلة في الخليج والعراق ، وأغلبها متعاطف مع إخوان مصر حاليا ، إذا أرادت أن تحاصر تنظيم الدولة الإسلامية فكريا ودينيا وسياسيا وشعبيا ، وكلا الأمرين لا يمكن إنجازه بدون تعديلات مهمة في الموقف من الأزمة في مصر ، لأن الإخوان في الصدارة منها ، كما أن الارتباك المستمر في الوضع السياسي المصري واستمرار الاحتجاجات وظهور اختراقات لتنظيم الدولة الإسلامية في سيناء واستمرار النزيف الاقتصادي بدون أفق علمي وواقعي للإنقاذ وتعقد الأزمة في ليبيا وتراجع الدور المصري في التأثير على مجريات الأوضاع فيها ، كل ذلك يجعل من مراجعة الموقف أولوية أمام القيادة السعودية الجديدة . الحالة التونسية أعطت السعودية والإمارات أيضا درسا مهما عن أخطاء التصور المبالغ فيه تجاه مخاطر الإسلام السياسي ، والإخوان تحديدا ، إذ أمكن في عاصمة انطلاق الربيع العربي تونس أن تسقط الجماعة "حركة النهضة" عن عرش السلطة بطريقة ديمقراطية وبدا أنه بإمكانك تحجيم نفوذها السياسي بآليات أخرى غير عنيفة وغير دموية وغير مهيجة للعنف والاضطرابات على النحو الذي حدث في مناطق أخرى ، وبالتالي فوجود الحالة الإسلامية في أي شراكة سياسية في المنطقة وخاصة دول الربيع العربي لم تعد تبعث على القلق والخوف ، أو تدفع إلى انتهاج سياسات إقصائية حادة ثبت أن لها عوارض جانبية أكثر خطورة منها . الترتيبات التي أصدرها العاهل السعودي الجديد الملك سلمان بن عبد العزيز وضحت بجلاء أن الجناح الذي قاد السياسة السعودية تجاه مصر طوال العامين الأخيرين قد ابتعد عن صناعة القرار في المرحلة الجديدة ، كما أن القيادة الجديدة تملك ميزة عدم المسؤولية المباشرة عن إرث السياسات السابقة وأعبائها ، وهذا يمنحها مرونة أكبر في التعديل والتصويب ، وقبولا أكبر من كل الأطراف كوسيط فاعل ومؤثر وقادر على احتواء توابع الحرائق الأخيرة ، وخاصة في ملفي : مصر واليمن ، خاصة وأن عملية تصويب المسار أصبحت تقتضيها مصالح حيوية للمملكة وأمنها القومي .