أقل ما توصف به الحالة المصرية الآن هى الرمادية الضبابية. حالة فوضوية يختلط فيها المتناقضان، الخوف والأمل. ولعلها فرصة للمثقفين المصريين للقيام بتدريبات عملية على ممارسة فن التحليل السياسى، بتعريف السياسة الصحيح "عقلنة الفوضى وحل المتناقضات". وهى حالة اختبار أيضا لحكماء الأمة الثقاة فى أداء أدوارهم فى "عقلنة الموجودات" ، وهذا صحيح مهامهم أو من المفترض أن يكون . مصر إلى أين ؟؟؟ . سؤال يتعلق بالمستقبليات. وللإجابة لابد من ثلاث : استدعاء الماضى وإدراك الحاضر وتطبيق القواعد الصحيحة الحاكمة. سبق توصيف الجمهوريات المصرية الأوتوقراطية الثلاثة السابقة (من ناصر إلى مبارك) فى مقال (نهاية موجة تاريخية فى المشرق العربى، من الاستعمار والأوتوقراطية إلى الجمهوريات الإسلامية – 4 ابريل 2008). ونتوقع أن تكون الرابعة مزيجا أو خليطا مسخا من الثلاث. المقصود بالأوتوقراطية هى الرئاسة أو القيادة الاستبدادية المتمحورة حول الشخص الواحد أو حول مجموعة صغيرة ضيقة تبرز أحد شخوصها فى الواجهة. ومن الناحية الأكاديمية تنقسم لثلاث أنواع أو أشكال هى الخيرة (المستبد العادل) والديماجوجية أو البهلوانية السياسية وأخيرا المتشددة المتعسفة. ومن الأمور التى تستحق التأمل والدراسة أن الأنواع الثلاث قد جاءت متعاقبة فى التاريخ المصرى من ناصر إلى مبارك. فالأوتوقراطية "الخَيرّة" هى التى تستأثر بالسلطة ولكنها تحاول استخدام أساليب مرتبطة بالإدارة الإيجابية، وهو مفهوم أقرب إلى فكرة "المستبد العادل" التى تنسب للإمام "محمد عبده"، وقد ظهر هذا النوع فى الحقبة "الناصرية" حيث تحقق المحور الأول من الحرية وهو "العدالة الاجتماعية" مع هامش وإن كان بسيطا محدودا من الحرية السياسية (وقد ظهر هذا فى الكتابات الأدبية النقدية وفى مسرح الستينات). ويتمثل النوع الثانى فيما يسمى بالأوتوقراطية الديماجوجية المناورة (البهلوانية السياسية) وفيها يقوم الحاكم المستبد (ومجموعته الضيقة) بإيهام الجماهير بالمشاركة فى السلطة واتخاذ القرار وفى حقيقة الأمر يكون منفردا تماما بكافة الأمور على عكس ما يقول. وقد ظهر هذا النوع بوضوح وجلاء فى حقبة "السادات" الذى أقر هو بذاته بأنه أخر الفراعين المؤلهين وبأنه "أمير المؤمنين" رغم أنه كان سكيرا (كما جاء فى شهادات الأستاذ "محمد حسنين هيكل" بكتاباته ولم يكذبه أحد). ويتسم هذا النوع غالبا بسمة غياب المحور الاجتماعى للحرية (العدالة الاجتماعية) مقابل الإيهام بوجود المحور السياسى (الديموقراطية ) كنوع من أنواع "المخدرات" السياسية. مع ملاحظة أنه رغم سابق انتقادنا للأستاذ هيكل فى قضيتين هما "إشكالية مطلق الدين ونسبية السياسة" وإشكالية "فصل الجهاد عن السياسة" (المطلق والنسبية بين الدين والسياسة ، حواديت "هيكل" قبل الموت - أسلمة الصراع فى معركة المصير( : ، إلا أنه يعتبر أو نعتبره "المثقف العربى رقم 1" طبقا لمعايير المثقف الأربعة (قاعدة معرفية وآلية إستنتاج وإدراكية وهموم بقضية ورؤيا للحل). ونأخذ منه ونستشهد به فى بعض مواقف استنادا على ما أطلقنا عليه منهجيته الهندسية فى الكتابة بالعموم والتحليل السياسى بالخصوص (الشكل البنائى – التوثيق والمرجعية – المقتربات المتنوعية التى تتناسب والموضوع). والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها يأخذها (أو أخذ بها). أما النوع الثالث فهى الأوتوقراطية العنيدة المتشددة التى تتفانى فى التمسك بالقواعد والنظم والقوانين الموروثة والمستحدثة التى غالبا ما تسن لتعظيم نفوذها وتعضيد سلطانها. ويتسم هذا النوع بغياب "الرؤيا" السياسية والفكر الإبداعى وينطبق عليه المثل العامى المصرى (حافظ صامم وليس دارس فاهم). ويشترك هذا النوع مع سابقه (النوع الثانى) فى سمة الديماجوجية وإن كانت ذات شكل ركيك مفضوح كما يشترك معه فى غياب البعد الاجتماعى (العدالة الاجتماعية) ويزيد عليه غياب البعد السياسى (الديمقراطية). أما السمة التى يتفرد بها هذا النوع فهو "غياب الإمكانيات وضعف القدرات" بمعنى العجز عن الإصلاح حتى لو أراد (!!). ولعله من المفيد أيضا إيجاد العلاقة الإرتباطية بين الأوتوقراطيات الثلاث وبين شخصيات ابطالها (ناصر والسادات مبارك) إستنادا على مفهوم ما يسمى بالشخصنة (مصطلح طارق البشرى) أو مصطلح الفرعنة (طبقا للموروثات المصرية). ناصر كان مثقفا بحكم تكوينه الشخصى وبحكم طبيعة عمله كمدرس فى معهد القادة والأركان. أما السادات فهو شخصية جدلية أصدق توصيف لها هو ما جاء من "د.عائشة راتب" بأنه "شخصية متأمرة بطبعها"، ظهرت فى إنتمائه المبكر للحرس الحديدى المكلف بعمليات الإغتيالات الخاصة للملك فاروق ثم أنقلابه عليه لصالح حركة "الضباط الأحرار". كما ظهرت فى المسرحية البهلوانية التى تجلت فى قرار الذهاب لإسرائيل الذى بدا عفويا بمجلس الشعب رغم سابقة المحادثات المكوكية فى المغرب (تهامى – ديان) والنمسا وتشيكوسلوفاكيا تحت رعاية الإدارة الأمريكية. كما تظهر برجماتية السادات وأتسامه بعدم الوفاء فى مشاركته فى تشكيل "نادى السفارى" (برعاية المخابرات الفرنسية - ألكسندر دو مارنش) بمشاركة شاه إيران "محمد رضا بهلوى" وبعض الممالك العربية للقضاء على الوجود السوفيتى بالمنطقة وخاصة أفريقيا، رغم أن "كل مسمار بالسلاح المصرى المشارك بحرب أكتوبر" (حسب تعبير هيكل) كان صناعة سوفيتية (ويستثنى من هذا سرب الهوكرهانتر العراقى وطائرات الميراج الليبية). نتيجة أعمال "لغوصة" نادى السفارى فى إفريقيا نشاهدها بوضوح وجلاء فى الصومال (!!). أما مبارك فهو كما نعت نفسه بنفسه " راجل لا بتاع تاريخ ولا جغرافيا" او لا يريد ذلك (حسب مجادلة الراحل محمد السيد سعيد معه بإحدى مناسبات معرض الكتاب المصرى). وقد سبق توصيف شخصية مبارك رمزيا بإستعارة إحدى شخصيات روايات نجيب محفوظ (مع بعض التعديل) فى مقال " ما لم يقله النقاد عن نجيب محفوظ – سبتمبر 2006". مبارك لم يكن مبدعا ولم يريد أن يكون، ولعله لقصور فى الإمكنيات وضعف القدرات، فقد ورث "الليبرالية المنفلته" من ربيبه السادات ثم ختم حياته بتسليم رقبته إلى أسرته بتطبيق صورة كربونية مسخة من "النيوليبرالية المتوحشة" المأخوذة من المحافظين الجدد بالولايات المتحدةالأمريكية فى بدايات الألفية الثالثة وهو ما كان فيها نهايته الماساوية. والسؤال الآن : ما هو شكل الأوتوقراطية الرابعة التى بدأت ملامحها فى الظهور ؟؟؟؟ أ – البداية ستكون "خيرة" فى محور "العدالة الاجتماعية" بإعطاء "منح" تحققها ظاهريا (تحديد الحد الأدنى من الأجور، وتوزيع بعض الوحدات السكنية الشعبية، وبعض التدخلات فى تنظيم الأسعار عن طريق الاستيراد لمواجهه احتكارات أباطرة السوق، ووعود وردية عن التأمين الصحى الشامل والحقوق النقابية العمالية). ب – لا تملك السلطة الجديدة المقدرة على التحقيق الكامل للعدالة الاجتماعية لنقص الإمكانيات وبسبب سطوة رجال المال والقيود الغربيةوالأمريكية فى فرض القواعد الليبرالية والنيوليبرالية، كما لا تقدرعلى ترف خيار أعطاء الحرية السياسية بإطلاق لاعتبارات عديدة أهمها الضغوط الخارجية (الصهيومسيحية المعادية للإسلامية)، ولعل بعضها يظهر فى الحشود الإسرائيلية بالمنطقة (د) وانتهاك السيادة الحدودية الشرقية وإثارة القلاقل فى سيناء والتهديد الأمريكى بمنع المعونات (ومستلزماتها) إن وصل الإسلاميون للحكم وظهور خطة التدخل الأمريكية-الإسرائيلية بدعوى الحفاظ على اتفاقية السلام. يضاف إلى هذا تورط بعض المنتمين لمؤسسات سيادية فيما يبدو أنه مخالفات تستوجب المساءلة أثناء العهد البائد ومن ثم احتمال كبير لمحاسبتهم بأثر رجعى. ولهذا ستلجأ السلطة الجديدة إلى إيهام الجماهير على عكس الحقيقة بالمشاركة فى السلطة واتخاذ القرار ورفع شعارات القانون والشرعية، مستعينين برجالات القانون والإعلام ورجال المال والأعمال وتأليب فريق من الشعب على أخر واتهامات بالعمالة للأجنحة الثورية الراديكالية .. الخ. ولعل ظهور نوايا السلطة فى إعلان ما يسمى "بالمبادئ الدستورية العليا أو الحاكمة" لهو بداية الغيث. ج – أمام قوة "القصور الذاتى" للثوريين المصريين ستتصف السلطة الجديدة بالعند و تتفانى فى التمسك بالقواعد والنظم وستقوم بإضافة قوانين جديدة تُضاف لترسانة القوانين الموروثة. ولعل الحفاظ على موروثات المؤسسة القضائية التى تتعرض لانتقادات حادة من شخصيات قضائية مستقلة ورموز ثقافية ذات مصداقية (جويدة – نافعة – هويدى) يتمثل بعضها فى أمتلاء النيابة العامة برجالات الشرطة التى قدرها أحد الخبراء الاقتصاديون فى برنامج فضائى بنسبة 40% ، ومن حالات تعينات أبناء وأقارب منسوبى بوحدات المؤسسة القضائية دون وجه حق، وهو ما ظهر فى اعتراض المجلس العسكرى على الكشف الخاص بتعينات "مجلس الدولة" دفعة 2011. يضاف لهذا قرار تحويل القضاء العسكرى إلى هيئة مستقلة ذات صلاحيات متسعة وممتدة وهو الأمر الذى يشكل بداية مرحلة لن تكون طيبة. لا يوجد فى العلوم السياسية نوع رابع من الأوتوقراطية – ولكننا قد نشهده كإضافة نتميز بها عالميا (!!!). وندعو الله بأن لا نكون على صواب .... وللحديث بقية .. هشام الناصر http://alnasser-hesham.maktoobblog.com http://www.facebook.com/#!/pages/Hesham-AlnasserEG/183632438368175?sk=wall [email protected]