أعلنت اللجنة العليا للانتخابات التونسية نتائجها الأولية بفوز الباجي قائد السبسي برئاسة تونس بحصوله على أكثر قليلا من 54% من أصوات الناخبين ، وهي نتيجة لن تتغير كثيرا في الغالب ، لأنه لا توجد طعون مهمة أو جدية يمكن أن تغير منها بشكل حاد ، والنتيجة بهذا الشكل تعطي إحساسا نسبيا بالراحة لدى كلا المعسكرين ، فالفائز ربح بصعوبة ويواجه مجتمعا منقسما سياسيا بشدة ، والخاسر حقق نتيجة مشرفة ظهر أن نصف الشعب تقريبا منحاز له ومؤمن بنجاحه رغم صعوبات المرحلة التي تولاها ، فالنتيجة تعبر عن انقسام سياسي يفرض على الفائز والخاسر حسابات مختلفة ، فالفائز عليه أن يتواضع أمام الحقائق التي أفرزتها النتائج ، والخاسر يدرك أنه كان قريبا من الفوز ، وأن أي جولة جديدة يمكنه أن يكون فارسها إذا استثمر معاناة الشعب وضعف صبره كما استثمره منافسه هذه المرة . المنصف المرزوقي كما حركة النهضة دفع ثمن تحمل المسؤولية في الوقت الصعب ، لأن الفترة التي أعقبت الثورة كان من المفهوم أن تكون فترة اضطراب وقلق وتوترات أمنية وسياسية وكل ذلك ينعكس بقوة على الاقتصاد الذي يعاني والعملة التي تضعف والغلاء الذي ينتشر ، والناس تحمل السلطة القائمة المسؤولية عن كل ذلك ، فهي لا تعترف بالظروف ، وهذا حقها ، وهو ما استثمره معسكر السبسي الذي وعد الشعب التونسي برغد العيش إذا انتخبوه ، والمرزوقي كان غير مرضي عنه من عواصم الثورة المضادة في بلاد العرب فحاصروه ، ولم يتمتع بما تمتع به غيره ممن تولوا السلطة في بعض عواصم الربيع العربي من مضخات المال الخليجي وأسطول ناقلات النفط المجاني التي أولها في أبو ظبي وآخرها في قناة السويس ، ولا تلقى العون في حده الأدنى من جواره النفطي الغني "الجزائر" ، فدفع الشعب التونسي ثمن ديمقراطيته وثورته معاناة وفقرا متزايدا . الجميع ، داخل تونس وخارجها ، يتحدثون عن انتصار الديمقراطية ، وعن ميلاد أول ديمقراطية عربية حقيقية ، وهذا صحيح ، ولكن الصحيح معه أن هذا الانتصار صاحبه وفرسانه هم المنصف المرزوقي وحزب النهضة ، الذين أداروا المرحلة الانتقالية شديدة الحساسية بحكمة وإصرار وشرف ، ونجوا بوطنهم من عواصف مرت بها عواصم الربيع العربي خلفت الدم والفوضى والحرب الأهلية ، واحترموا قيم الديمقراطية ووفوا للشعب بحماية مكتسبات الثورة حتى أنهم خسروا بشرف معركة البرلمان ومعركة الرئاسة معا وهم حكام البلاد وقتها ، وإذا كان الشعب التونسي الآن لن يتوقف في الاختيار السياسي على تلك الحسابات ، إلا أن التاريخ يسجل ، والأجيال المقبلة ستعرف قيمة هذا الإنجاز والرسالة الأخلاقية والتاريخية التي أورثه إياها المرزوقي والنهضة . نجاح الباجي قائد السبسي كان رهن ضخ المال الخليجي بصورة غير مسبوقة ، وصفها البعض بأنها كانت كافية لنجاحه لرئاسة الولاياتالمتحدةالأمريكية نفسها وليس تونس فقط ، وحاكم تونس الجديد سيكون مطلوبا منه سداد فواتير الانتخابات للممولين ، وهم أنفسهم ضمانات نجاحه ، بالمليارات التي يمكن ضخها في الاقتصاد التونسي ودعم الشرطة والجيش وتوفير الوقود مجانا لعامين على الأقل ، وأصحاب الفواتير معركتهم الأساسية مع الربيع العربي نفسه ومع التيار الإسلامي والإخوان المسلمين بالدرجة التالية ، فهم حريصون على إفشال أي نموذج لثورات الربيع العربي ، وإثبات أنه لا يمكن أن يأتي بديمقراطية حديثة مستقرة ، كما أن الحرب الدموية التي تلاحق أي وجود إسلامي في السلطة ، وخاصة في عواصم الربيع العربي ستلقي بخطرها على تونس أيضا ، وستكون جزءا من متطلبات سداد الفاتورة ، والسبسي ملزم بالسداد ، ولكن هو كسياسي محنك وقديم يعرف أن لذلك حدودا إذا تجاوزها انقلب كل شيء على رأسه هو نفسه ، وتحولت بلاده إلى "أمثولة" جديدة تعصف بها الحرب الأهلية والفوضى والدم والعدمية السياسية ، وسيجد نفسه فوق حطام دولة ويسجل له التاريخ خرابها ودمارها ، وبالتالي فهو سيسدد فواتيره في حدود ، ما هي تلك الحدود وما هي الآفاق التي يمكن أن يصل إليها في سداد فواتير الانتخابات والدعم وحماية نظامه ، هذا في تقديري ما سوف يشكل مستقبل تونس خلال المرحلة الجديدة .