قليلة هي كلمات الرئيس عبد الفتاح السيسي وخطبه القصيرة التي تثير ردود أفعال صاخبة ، لأنه يحرص دائما على أن يكون خطابه عاطفيا وفضفاضا وغير محدد المعالم ، إلا أن كلماته التي قالها على هامش افتتاحه توسعات مطار الغردقة الدولي الجديدة أثارت ردود فعل حادة وعنيفة من جانب خصومه وقطاع من الإعلام الوطني ، كما حركت بعض أنصاره لمحاولة تفسيرها بشكل مختلف ، والحقيقة أن الكلمة ملتبسة فعلا ، ويمكن فهمها على أكثر من وجه ، وإن كان وجهها الصريح لا يمكن قبوله وفق أبجديات قواعد السياسة ونظرياتها . قال السيسي في كلمته التي القاها اثناء الافتتاح: «مفيش حاجه اسمها نظام، فيه حاجه اسمها مصر، دوله مصريه، الشعب المصري ينتخب، ياتي رئيس يمسك دوله واقفه علي حيلها، مش نظام كل شويه يتغير ولما يتغير يقولوا لا، هي دوله مصريه، مؤسساتها اعلامها قضاؤها جيشها، كلها تشتغل علشان خاطر بلدها، يتغير الحد يييجي حد تاني، يكمل بالدوله المصريه، يكمل بالدوله المصريه، مش بحد تاني». عن نفسي فهمت الكلمة في سياق العواطف التي يستخدمها السيسي دائما في كلماته المرتجلة ، وهي عواطف "تعوم" فوق مشكلات مربكة ومقلقة للرأي العام ، هو لا يعطيك حلا واضحا للمشكلات أو برنامج عمل ، وإنما يعطي شحنات معنوية لرفع الروح المعنوية وبث التفاؤل في مؤيديه بالمستقبل ، وبالتالي ، فأنا فهمت كلمته على هذا النحو ، هي أشبه بكلامه المعتاد : إيد واحدة ، كلنا مصر وكلنا الوطن ، ها نبني بلدنا سوا ، حكومة ومعارضة وشعب ، تحيا مصر ... إلى آخر هذا النسق المعروف في كلماته ، إلا أن البعض أراد أن يناقشها بشكل علمي وسياسي محدد ، وهذا حقهم بدون شك ، لأنهم لا يتعاملون مع ناشط سياسي أو فنان أو مثقف ، وإنما مع رئيس دولة محددة صلاحياته بالدستور والقانون وعليه متطلبات ومسؤوليات تجاه شعبه ينبغي إنجازها وفق برنامج يعرفه الجميع . على المستوى العاطفى أيضا لا أتصور أن كلمات السيسي تكون مقنعة ، لأن الظرف التاريخي الذي يتحدث فيه لا يسمح بهذا التماهي بين النظام والدولة والوطن ، هذا يحدث في لحظات تاريخية يكون فيها خطر وجودي على الوطن نفسه تواجهه الأمة بإجماع شامل على إنقاذ الوطن وتوحيد الطاقات للإنقاذ ، ومصر الآن ليست في وارد هذه الحالة ، والسبب واضح ومعروف للكافة ، داخل مصر وخارجها ، وهو أن الوطن منقسم بالفعل ، وأن الشعب منقسم بالفعل ، فهناك ملايين المصريين مع النظام الجديد بكل حماسة وأحيانا هيستريا ، وهناك ملايين أخرى من الشعب ضد النظام الجديد بكل حماسة وأحيانا أيضا هيستريا ، وحتى على مستوى أجهزة الدولة ، فكلنا يعرف التنازعات والحروب الدامية التي تحدث داخل مؤسسة العدالة على سبيل المثال ، والتباين الخطير في الرؤية بين المؤسسات الدينية وبين المؤسسات الثقافية ، والتي تصل لحرب تكسير عظام حاليا ، كما أن هناك تيارا شعبيا كبيرا ينزع إلى أشواق ثورة يناير وتيار آخر ينزع لاستعادة أجواء نظام مبارك ورموزه ورمزيته ، في مثل هذه الحالة لا يمكنك التحدث بتلك العاطفة عن تماهي الكل في الوطن ، النظام والدولة والشعب ، هذا قفز على المشكلة وهروب من مواجهتها ، وهنا من حق الجميع أن يرفض فكرة هذا التماهي ، لأن النظام في الحقيقة ليس هو الدولة ، فالنظام يتغير والدولة تبقى ، والنظام ليس هو مصر ، ليس هو الوطن ، هو رؤية سياسية لقيادة منتخبة امتلكت أدوات لإدارة شؤون الدولة ، أخطاؤها تتحملها هي وليس الدولة وليس الوطن ، ونجاحها يحسب لها هي ، ويمكنها استثماره في إقناع الشعب بإعادة انتخابها ، ويمكن نقد النظام والعمل على تغييره بشكل سلمي ومشروع ، ولكن لا يمكن نقد الوطن أو العمل على تغيير الدولة ذاتها ، بل إن بعض ما أشار إليه السيسي في كلمته عن التماهي بين النظام والجيش والشرطة والقضاء والإعلام ، هو مؤشر غير حميد وغير إيجابي على الإطلاق في المعيار الديمقراطي ، لأنه في الدولة الحديثة ينبغي أن يكون هناك حدود فاصلة بشكل واضح بين النظام الحاكم وبين المؤسسات الصلبة مثل الجيش والشرطة والقضاء ، ولا بد أن تكون تلك مؤسسات مستقلة ، ولاؤها للدولة والوطن وليس للحاكم أو نظامه ، وهذا هو الخيط الرفيع بين النظام الديمقراطي والنظام الديكتاتوري . مصر تواجه خطرا وجوديا حقيقيا الآن ، هذا صحيح ، ولكن رؤية السيسي هذه للتماهي بين النظام والدولة والوطن لا تحدث إلا في حالة واحدة ، وهي نجاحه في تحقيق إجماع وطني ، وهذا شروطه الآن قاسية ، ولكنها ليست مستحيلة ، وتستدعي منه الرجوع خطوات للوراء ، وتصفية حسابات الدم والكراهية التي تمزق الوطن حاليا ، ويفرض على كل أجهزة الدولة ومؤسساتها احترام دستور الثورة بشكل صارم وعملي ، وفي طليعتها الحريات العامة والفصل بين السلطات وحماية الكرامة الإنسانية وإلغاء كافة القوانين سيئة السمعة التي صدرت في أعقاب 3 يوليو ، فهل يملك الشجاعة على اتخاذ مثل هذه الخطوة .