يرىبرنارد شو الكاتب الإنجليزى الكبير(1856-1950 م) إن العنف ظرف تاريخى معقد يسيء إلى البشر ويحطم لديهم سلم القيم الاجتماعية.. ويحدث تغييرًا جذريًا فى العلاقات بين الناس.. وله رواية جميلة يلخص فيها هذه الرؤية العميقة اسمها(بيت القلوب المحطمة).. والأدب والثقافة والتاريخ عند بعض السياسيين الجدد_ خاصة الشباب ذوى الطموح الفائر الهادر_ ..حالة هامشية لا يلتفتون إليها كثيرًا ويتصورون أنها كلام فى كلام وأنهم أصحاب الحلول العملية (على الأرض)..هكذا يصفون أنفسهم دائمًا.. وأن لديهم إبداعات لكل المشاكل والنوازل التى يكونون فى الحقيقة هم أنفسهم أحد أخطر أعراضها وأسبابها أيضًا .. المهم أن هذه الرواية بها شخصيات جديرة بتأمل صفات أصحابها خاصة فى أيامنا هذه .. (شوت أوفر) القبطان السابق ذو الثمانين عامًا الذى بنى بيت على شكل سفينة يعيش فيه أقصى حالات التأمل والتركيز وهو على ذلك يشرب الخمر بشراهة شديدة.. وتعيش معه ابنتيه (هزيون) المتزوجة من شخص غريب الأطوار زير نساء لا يبدو عليه أنه يؤذى أحدًا.. و(أريان) التى تزوجت بدون علم أبيها وهربت وعادت بعد عشرين عامًا بصحبة أخو زوجها الذى مات.. وغض الأب بصره عن عودتها وعن مجيء أخو زوجها معها.. البيت به ناس كثيرون .. داخلين طالعين ..وكلهم فاشلين موجوعين خائفين كارهين ..أحداث الرواية مليئة بالاحتيال والنصب والحب المحرم والسرقة والتنويم المغناطيسى والمضاربات واللعب بالمال ...وفى النهاية تسقط على البيت قذيفة فيموتون جميعًا. كل هذه الشخصيات وما كان منها من فعال كانت نتيجة (العنف العام) فى المجتمع وقت الحرب العالمية الأولى التى لم تكن حرب شعوب..كانت حرب أنظمة وأسياد يتنافسون على السيادة والهيمنة..تختلف التفاصيل وتبقى النتائج متشابهة عنف الحرب العالمية الأولى كان من صنع الدولة الحديثة القابضة على الأعناق .. التى يرى كثير من المفكرين أنه لم يكن هناك ما يبرر هذه الحرب على الإطلاق..وشقى بها الناس الغلابة المغلوبين دائمًا من قرارات الدولة والأسياد التى لا تأبه بهم وتسحقهم دائمًا وتغلبهم دائمًا .. فيما هم يهيمون فى وأدى الضياع .. ضياعهم الكبير فى التاريخ وضياعهم الصغير فى حياتهم القصيرة.. وحسنًا فعل برنارد شو بأن جعل النهاية فى صورة قذيفة تسقط عليهم جميعا.. حتى يعتبر الجميع فى كل يوم وغد. في كتابه (الديمقراطية ونظام 23 يوليو) يرصد المستشار طارق البشرى تجربة (الدولة الحديثة/الجيش) فى مصر بعد خروج الاحتلال. متتبعًا دور الجيش المصري في السياسة .. (سؤال كل حين إلى أن يحين الحين !!) وخاصة في لحظات الأزمات السياسية التاريخية التي تعيد تشكيل المجتمع وخريطته السياسية من بداية تأسيس هذه (الدولة الحديثة) في عصر محمد علي(1805) ودور الجيش المحوري في مشروعه كل مشروعات النهضة وقتها قامت على هامش الجيش !!.. ثم انتفاضة الجيش على النخبة الأجنبية الحاكمة للبلاد وللجيش في 1881 م بزعامة أحمد عرابي ثم تنظيم (الضباط الأحرار) داخل الجيش في منتصف القرن العشرين وإطاحته بالنظام الملكي وبالحياة السياسية السابقة وبالأحزاب والحركات السياسية وبالدستور وإعادة تشكيل الخريطة السياسية والقيادة العامة للبلاد... سنقف قليلاً عن مشهد ضوءه خافت وهو غياب الجيش المصري عن المشهد السياسي في ثورة 1919 م .. هل كان لوجوده بكامل قوته في السودان كما قال الحكيم البشرى؟..قد لا يبدو ذلك مبررًا كافيًا بالقدر المقبول .. وأنا أتمنى على الباحثين والدارسين أن يهتموا بدراسة هذه الفترة ووصف العلاقة بين( المدنى والعسكرى) أثناءها .. وهى العلاقة التى ستزداد تعقدًا وارتباكًا بعد ذلك وستطرح علينا كثير من الأسئلة المقلقة عن المستقبل وكيف سيمكننا العيش فيه وإهدائه إلى الأجيال من بعدنا. من الأمور التى ستجذب انتباهنا فى كتاب الحكيم البشرى ..هو كيف كان يرى ضباط يوليو الحياة السياسية والحزبية قبل انقلابهم/ثورتهم وسخطهم عليها وتنقلهم بين العديد من الأحزاب والحركات السياسية والجمعيات ثم استقلالهم عنها وتكوين حركة (الضباط الأحرار) متجاوزين فيها أي خلافات أيديولوجية بينهم وقصر أهداف الحركة على نقاط اتفاق عام وهو ما لم يحدث فى الحقيقة فقد ظل كل منهم على ولائه الأيديولوجي والعقائدي .وإن تميز عنهم جمال وعامر وأنور بقصر الولاء والانتماء( للنفس) وما تحويه من عقد وصراعات لم يتصالحوا أبدًا معها وظلوا يحملونها على رءوسهم وفى جيوبهم وهم يحكموننا.. ويهدموا أبنية الوطن حجرًا من بعد حجر. ستبدأ مصر فصلاً من أكثر فصولها التاريخية بؤسًا وعطنًا وركودًا وجهلاً وقهرًا وفقرًا فى كل شىء (أخلاق تعليم صحة فن فكر) ..سيتم التأسيس لحكم يتسم ب(الشمولية التامة ) تم حل جميع الأحزاب والحركات السياسية عدا جماعة الإخوان التى لن يكفى فيها الحل ..ستتم بعدها عملية إقصاء وتشريد وسحق ومحو على نحو (تتارى وانتقامي) ..فى محاولة_ ستبدو بعدها مضحكة_لغلق ملف أى تيار سياسى عقائدى ..حل الأحزاب تم بالاتفاق مع الأستاذ حسن الهضيبى مرشد الإخوان و(مجموعته) الذين كانوا يفهمون فى شئون كثيرة جدًا فى الحياة باستثناء شأنًا واحدًا فقط _مع كل الإنصاف_ وهو الشأن السياسي!!! أضف إلى ذلك عدم خلو أفكارهم ومشاعرهم من التطلع إلى معضلة البشر فى كل وقت وحين(السلطة) معشوقة الجميع فى كل الأزمان .. سنسمع مبررات ملأ الأرض عن إعلاء حظ (الدين والوطن) على حظ (النفس وشهواتها) فى مساعى الساعين وسير السالكين .سيقول الجميع ذلك فى كل الأيام .. سينسى البعض وسيذكر البعض أن هناك يومًا سيُسأل فيه (الصادقين عن صدقهم ..) يرصد الحكيم البشرى بعين المؤرخ والفقيه.. أن النظام/الدولة كان قد جمع في قبضة يديه بين السلطات الثلاث(التنفيذية والتشريعية والقضائية) محركا إياها بواسطة الجهاز الأهم والأخطر في( بلد بيروقراطي شديد المركزية) وهو الجهاز الإداري للدولة..سيتحول هذا الجهازبعد عدة عقود الى حائط صد منيع ضد أول ثورة شعبية ضد الاستبداد والفساد .. هيمن عبد الناصر ودائرته المغلقة على السلطة (التنفيذية) مباشرة بتعيين(رجاله)سواء من ضباط الجيش أو المدنيين ممن أطلق عليهم (أهل الثقة) وزراء في الحكومات المتتالية.. واستولى على السلطة (التشريعية) وهيمن عليها في السنوات( القليلة) التي تشكل فيها مجلس نيابي وذلك بإصدار قانون انتخاب يشترط لقبول أوراق المرشح في المجلس أن يكون عضوًا في التنظيم السياسي الذي أنشأه النظام نفسه (الاتحاد القومي حتى عام 1962 ثم الاتحاد الاشتراكي) وليتحكم النظام في هذا التنظيم تحكمًا تامًا من إصدار لائحته الداخلية وتعيين قياداته. مع سقوط عضوية النائب بالبرلمان إذا سقطت عضويته في الاتحاد الاشتراكي !!! أما في السنوات التي مرت بدون وجود مجلس نيابي فكانت التشريعات تصدر مباشرة باسم رئيس الجمهورية الذي اختصر فيه (رمز) الدولة و(قيمتها )أولا وآخرًا...!! ستتم السيطرة على السلطة (القضائية) تمامًا .. بطريق مباشر وغير مباشر( بهيمنته على السلطتين التشريعية والتنفيذية) فصار من بيده إصدار القوانين والتشريعات هو من بيده (تعيين القضاة) وعزلهم بواسطة وزير العدل. فاكتملت بذلك عناصر الهيمنة التامة على القضاء وسيطر عليها كذلك بشكل مباشر عن طريق إنشاء(المحاكم الاستثنائية) لمحاكمة رموز المعارضة السياسية للنظام ورموز السياسة في العصر السابق بشكل عام ممن أطلق عليهم وقتها(أعداء الثورة)هذا إلى جانب الاعتداء الصارخ على (القضاء) بإعادة تشكيل هيئات المحاكم بقانون جديد للسلطة القضائية فيما عرف بمذبحة القضاء.. أما الأزمة الكبرى للنظام_والكلام للحكيم البشرى_ فقد نشأت في البداية بإنشاء العديد من الأجهزة الأمنية لإحكام السيطرة على حركة المجتمع ومراقبتها. فتحولت هذه الأجهزة (المخابرات الحربية والمخابرات العامة والمباحث العامة) إلى مراكز قوى كبيرة داخل مؤسسة النظام تحكمت في الإدارة العامة للبلاد بشكل فاضح وفج .. بل وتحاربت فيما بينها في محاولة كل منها فرض هيمنته على الأجهزة الأخرى أو مشاركتها مساحة عملها.. ولا تنسى فى غمار ذلك مصالح البيوت والعائلات لتحقيق (النفع اللذيذ) المباشر وأيضا لتحصين الحكم من الناس العاديين أبناء الشعب. هذا الشكل من الحكم ولكى يحقق فاعليته اعتمد بوعي( شديد القسوة والشراسة والاستباحة للدم والمال والعرض) على ظاهرتي (الأمن) و(الإعلام).و(القضاء الاستثنائي) ..سيهمس مهندس كمبيوتر بعد زمن طويل عن الهارد وير(الأمن والبطش)والسوفت وير(الإعلام والقضاء).. سيتم تحديث السوفت( وير)بين الحين والآخر .. كما جوارب الأحذية.. ليهيمن النظام/الدولة ..هيمنة تامة على سائر الأنشطة فى المجتمع باحثًا عن (حماية نفسه)..لم يتم ذلك عبر طرح ما هو شرعى وحقيقى.. متمثلاً فى(الحريات الخاصة) و(حقوق الشعب) فرادى ومجموعات وليس عبر( التنظيمات السياسية) و(الأحزاب) التى ستكشف حركة الاجتماع البشرى.. وتقيس طبقاته ومصادر قوتها وأسباب اتساعها وانحسارها فى كل ظرف سياسى خاص..لم يتم ربع ذلك ولا عُشره.. وهيهات أن يتوقع أحد منهم ذلك.. ولكن تم عبر وجود أجهزة (الضبط)و(التخويف)و(الإرهاب) وانتشارها وتقويتها وبما تصاغ به علاقاتها التنظيمية من (الانصياع العسكري) الذى لا يمكن أن يتولى مهاما وطنية عظمى ..ليدوى عبر الأزمان صوت السيد المسيح (يا أولاد الأفاعى يا مراءون انتم كذابون ومهرجون ..تتحدثون بالصالحات وأنتم فجرة..) ليسفر كل ذلك عن تحول الوطن إلى( بيت القلوب المحطمة)يسكنه أناس مثل القبطان العجوز(شوت أوفر) وابنتيه وباقى الهراطلة. ومن باب إلى باب نذوي كما تذوي الفراشات في التراب غرباء يا وطني نموت وقطارنا أبدًا يفوت.