في سياق مشروعنا الحضاري لإعادة بناء مصر الحديثة ، وإيمانا منا بأهمية الانطلاق من الذات واستثمار وتفعيلاَ لتراثنا العظيم ، كان هذا البحث والطرح إشكاليات العقل المسلم التقليدي الجامد يعانى العقل المسلم والعربي عامة من أزمتان كبيرتان ساهمتا في جموده وغياب قدرته على التعاطى الصحيح والاستثمار الأمثل لما يمتلك من تراث اسلامى كبير جامع ،وفي نفس الوقت يعانى التراث الاسلامى الكبير والحاشد لأكبر حضارة إنسانية عرفتها البشرية للكثير من الدخن والمبالغات والتشوهات.مما أصاب القدرة العربية والإسلامية على الفعل بالتقادم والضعف والخروج عن دائرة القوة والفعل . المظاهر: الانغلاق العلمي وضيق الوعاء المعرفي تجميد العقل وتقديس النقل والاكتفاء به ( وقف باب النظر والاجتهاد ) ( النص رأى وفعل التراث )و رفض الحكمة الوافدة ( فالآخر كله شر ) العشوائية ( غياب المعايير الحديثة رفض النقد والمراجعة والتجويد ) سطحية التعامل مع مفاهيم وقيم وعبادات وتشريعات الإسلام وقف التفكير التأملي والحد من استخدام الحد الأقصى لحدود العقل المسلم المعاصر أو يمكن إيجاز أسباب هذه الأزمة في جناحي القدرة العربية والإسلامية على الفعل في : أولا: أسباب جمود وتقادم وضعف العقل المسلم والعربي عامة : والتي أفقدته القدرة على التعاطى الصحيح مع التراث ، وساهمت في تعميق الأزمة الذاتية للتراث: 1 حالة من الضمور والضعف العقلي و تجمد العقل والاجتهاد وندرة الأفكار والافتقار الى الرؤى والتصورات والأفكار والخطط الإستراتيجية، وغياب القدرة على تجاوز التحديات والتخلف عن ركب الحياة تسترعي الاهتمام وتوجب الانتباه . ويرجع ذلك لتراكم العديد من الأسباب وعلى مدار فترة زمنية طويلة نسبيا أهمها : - كثرة إلف المحاكاة والتقليد. - ترحيل مهمة التفكير الى الآخرين من حولنا. وأحياناً ندعو تراثنا وأئمتنا الأموات للتفكير باستدعاء أفكارهم وآراءهم التي طرحوها في عصورهم. - الوقوع فريسة للفكرة الخاطئة التي توحي بأن التراث الاسلامى كامل ومن ثم فلا حاجة للتفكير والنقل أفضل وأوثق من المخاطرة بالتفكير وإعادة الإنتاج والتجديد. - الإحساس بالضعف والعجز والافتقار الى أدوات التفكير والبحث، ومن ثم الإحساس القاتل والمدمر بالدونية أمام الآخر. - الميل والاستسلام لداعي الكسل والراحة والخمول خاصة في ظل غياب مشروع عام جامع وحاشد لمواهب وأفكار وموارد وطاقات الأفراد والمجتمع. - تعرض البنية العقلية للضعف نتيجة طول فترة عدم الاستخدام والتعطل عن العمل وأهمال تدريب وتأهيل العقل وتعزيز قدرته على التفكير والإنتاج الفكري. - الفقر الشديد للجامعات أو الأقسام وحتى للأدبيات المتخصصة في مجال العقل ومناهج التفكير. - الحرب على المبدعين وممارسة كافة أنواع القهر والاستبداد والحصار ضدهم لأجل مصالح مادية وأهواء شخصية. - انتشار وسيادة الاستبداد العقلي والنفسي من الكبير على الصغير ومن المسئول على الفرد العادي ومن المدير على الموظف ومن الزوج على الزوجة مما قاد إلى حالة كبيرة من الحصار على العقل ودعوته الى الاستسلام للأمر الواقع. - الخطأ والانحراف الكبير في فهم و منهجية التعامل مع نصوص الدين بتقديم العقل على إعمال العقل بل وربما امتد الأمر الى إلغاء العقل وتوصيف ذلك على انه من دواعي سلامة وقوة الإيمان. - غياب الحافز على التفكير والإبداع والابتكار. - عدم توافر البيئة الحاضنة نفسياً ومادياً وعلمياً وأدواتياً على التفكير. - انتشار ظاهرة الإعراض عن التفكير حتى تحولت إلى ثقافة عامة لا تهتم بالتفكير أو الإبداع؛ بل امتد الأمر إلى التنافس المحموم في المحاكاة والتقليد واستيراد الأفكار كالمنتجات من الآخر. 2 غياب الفهم الكلى والمقاصد لمفاهيم وقيم وأحكام وتشريعات الدين ومن ثم فهو يعيش حالة من الفوضى والعشوائية في فهم وتطبيق الدين . الخلط بين النص القرآني والنبوي الثابت المطلق وبين التراث البشرى للصحابة والتابعين والسلف والتعامل معه كله على انه تراث اسلامى واجب نقله والالتزام به وتكراره . الاكتفاء بالنقل دون إعمال للعقل. يتمسك بظاهر النص دون البحث والتدبر العقلي في مقاصده ودلالته ليوسع ويطور آليات تطبيقه. كما يقدم الواجب أو المستحب على الفرض . ويعظم ويضخم المكروه أو المشتبه على المحرم والكبيرة . ويقدم العرف والتقاليد على الآية والحديث والحكم الشرعي . وينشغل بالشكليات والسفا سف عن الأصول و العظائم. وربما تقديم الفرع على الأصل والجزء على الكل ... وهكذا . ثانيا : الأزمة الذاتية في التراث الاسلامى : يعانى التراث الاسلامى الكبير والحاشد لأكبر حضارة إنسانية عرفتها البشرية تأسس و تراكم بناؤه على مدار أربعة عشر قرنا من الزمان مرخلالها بالكثير من فترات القوة والضعف والصعود والهبوط هذا التراث يعانى للكثير من الأزمات . أزمة تدوينه كسير وأحداث وليس كفلسفة وأهداف ومقاصد ومناهج ودروس وعبر. أزمة في عدم دقة التدوين خاصة خلال فترات الضعف والهبوط. أزمة التلاعب فيه بالحذف والإضافة والتهوين والتهويل عبر المستشرقين والدخلاء والعملاء. أزمة المبالغات التي انتشرت على ايدى الصوفية. أزمة الجمود وحوصلة الدين في سنن الهداية فقط وأهمال ثلثي الدين من سنن التدبير والتسخير. أزمة الانتقاء والإهمال بحسب الكتاب والمؤرخين والمدونين والعلماء والأمراء في ظل غياب المؤسسية الفكرية الجامعة التي تقوم بمهمة الضبط والترشيد والتنقيح والاعتماد والتوثيق خاصة خلال فترات الضعف والهبوط والاستهداف الكبير من أعداء الدولة والحضارة الإسلامية. أزمة في التنظيم والتبويب وفق أصول وقواعد العلوم الحديثة والتي بلغت درجة عالية جدا من التنظيم المعرفي الى مجالات ولكل مجال علومه ولكل علم فروعه . بينما تختلط العلوم والأبواب ببعضها البعض في هذا الكم الضخم من التراث ، فعندما تبحث عن أسس ومبادئ ومهارات علوم التربية في التراث الاسلامى تجدها متناثرة بين كتب الفقه والحديث والسير وعلوم القرآن ...الخ . فمن العجيب أن يظل أعظم تراث في التاريخ الإنساني منظما ومبوبا وفق قواعد العلم والمعرفة في القرن العاشر الميلادي ونحن على أبواب القرن الواحد والعشرون . والله وكأنه تراث وميراث لا أهل له، وربما أهل وورثة لا عقل لهم . غياب المراجعة الفكرية لكثير من القناعات والأفكار والمفاهيم التي تعد بمقياس الدين من جملة المتغير ولكنها بفعل الكثير من العوامل التاريخية تسربت للعقل الباطن العربي والمسلم على أنها من الثابت ومن ثم تحولت من مفاهيم للتطور في زمانها الأول الى مفاهيم للجمود والتخلف في زماننا الحالي مما قلل من فرص التعاطى الجيد معه خاصة في ظل ضعف وغياب العقل المسلم عن البحث والدراسة والعمل للتنمية وإعادة النهوض بصورة جادة. تحديات الواقع الحديث في مقابل هذه الأزمات الحادة التي يعانيها التراث ذاتيا يعيش العالم عصرا جديدا ومغايرا ومتجددا في كل شيء بداية من المنطلقات والدوافع والمفاهيم والأفكار والمعايير الى مناهج ووسائل وأدوات العمل والتنفيذ في ظل تراث متجمد بإشكاليات وبجمود أهله مما اوجد فجوة واسعة وكبيرة بين المسلمين والعرب والحياة بشكل عام . فبينما يتحدث العالم عن الاستنساخ البشرى ، واستثمار الخامات المتاحة على أسطح النجوم الأخرى ويستشرف لحياة جديدة على القمر تجمد العقل والفكر المسلم على تفصيلات الحياة اليومية للفرد والأسرة المسلمة والخطيئة هنا ليست خطيئة الدين والمنهج إنما خطيئة وجهل وتخلف المنتسبين لهذا الدين. وبينما فشلت خلاصات إنتاج العقل البشرى من النظم الاقتصادية الاشتراكية والرأسمالية في إدارة العالم اقتصاديا ، وتستمر الجهود البشرية في البحث عن حلول وخيارات جديدة لم يتمكن العقل المسلم المعاصر من تقديم الحل الإلهي والمتمثل في النظام الاقتصادي الاسلامى حيث عجز عن فهم مقاصده وأهدافه ومنطلقاته في القرآن الكريم والسنة وتطبيقاته في العالم المعاصر . ومن عجائب الدهر أن المسلمين الذى حكموا العالم لما يقارب الخمسة قرون متتالية نشروا وأسسوا وعززوا فيه معالم الدولة العادلة الراشدة وفق مفاهيم وتعاليم الإسلام أن يعجز أحفادهم في القرن العشرين عن بناء ورسم نظرية سياسية متكاملة للحكم الاسلامى لإدارة الدولة وفق معطيات العصر الحديث ، ولم يستطيعوا سوى تقديم بعض الرؤى الجزئية المحدودة والهروب الى استدعاء أفكار وأحداث من تاريخ أسلافهم العظماء. وفى هذا السياق اطرح مشروعا لإعادة قراءة وتنقيح وتبويب وتفعيل التراث الاسلامى يتطلب منا مهمتين إستراتيجيتين: المهمة الأولى: ضرورة إعادة تفكيك البنية الذهنية والنفسية الأساسية للعقل المسلم، و التخلص من الإشكاليات العقلية التي تسببت في تجميد العقل وترسيخ حالة التخلف والضعف والتفكك والتبعية . وإعادة بناؤه وتعزيزه بقيم الانفتاح والتواصل والتعاون والتكامل ، و بمناهج وطرق وأساليب التفكير الحديثة خاصة مناهج التفكير النقدي والفلسفي التأملي والكلى الإستراتيجي. المهمة الثانية : إعادة قراءة شاملة للتراث الاسلامى وفق المحددات الآتية حتى تضمن جودة ثمرتها : أن تتم وفق قواعد التخصص المهني حيث يقوم خبراء ومتخصصى كل مجال من مجالات العلوم الإنسانية بقراءة شاملة للتراث الاسلامى بعيون وعقول مهنية متخصصة. عمل مجامع علمية يجتمع ويتعاون ويتلاقح فيها العالم الديني صاحب البنية المعرفية الشرعية مع المفكر المهني صاحب البنية المهنية المتخصصة. تنطلق من الأهداف والمقاصد العامة للدين. وترسم السياقات التاريخية المختلفة التي تمت فيها الأحداث حتى تحسن فهما وتفسيرها دون إفراط أو تفريط أو تخيل وتوهم . التفرقة بين الثابت والمتغير والمطلق والمقيد والكليات والجزئيات حتى توضع الأحداث والأفكار والمفاهيم في نصابها الصحيح وتفهم على حقيقتها . قراءة منهجية تبحث عن الأهداف والمقاصد والفلسفات والمناهج، تستنتجها من السياقات العامة للسير والأحداث والإجراءات. البحث في الدوافع والمنطلقات والمآلات والعلاقات. فهم وتفسير الأحداث والوقائع والخروج بالسنن والقوانين والنظريات والمبادئ. تنظيم وتبويب المخرجات النهائية وفق الخرائط المعرفية للعلوم الإنسانية في العصر الحديث حتى يسهل على الباحثين والجمهور الاستفادة منها. النتائج المتوقعة لمشروع إعادة قراءة وتنقيح وتبويب وتفعيل التراث الاسلامى 1 حالة من التلاقح الكبير بين السنن والقوانين والمفاهيم الربانية وبين الرصيد التراكمي من الإنتاج البشرى المهني في التخصصات الإنسانية مما سيرتقى بها بشكل كبير. على سبيل المثال : أ عندما يتكامل المنهج القرأنى والنبوي في بناء وإعداد القيادات قيميا ونفسيا ومعرفيا ومهاريا مع المناهج الحديثة في إعداد القادة سيضمن إنتاج جيل جديد من القادة الراشدين العادلين الفاعلين لخدمة المؤسسة والدولة والإنسانية. ب عندما يتكامل المنهج القرآني والنبوي في بناء وإعداد الاعلامى المهني المحترف الذى يؤمن بقدسية الإنسان وحقه في معرفة الحقيقة وجرم وحرمه خداعه وتضليله والتلاعب بعقله ومشاعره وتوجهاته بغض النظر عن دينه وعرقه وجنسه وقوميته ، واحترام خصوصيته ومشاعره ، ويعرف خطورة وأمانة الكلمة في ميزان رب العالمين ...الخ من القيم الدينية السامية مع قواعد ومهارات الحرفية المهنية الصحفية لا شك أن ذلك سيساهم بشكل كبير في نضوج ورقى العمل الاعلامى، وهكذا في علوم التربية والاجتماع والسياسة والإعلام والإدارة ... الخ . 2 إعادة برمجة العقل المسلم بطريقة عصرية تؤهله لفهم وتطبيق واستثمار الدين في فتح آفاق العقل نحو مناهج وطرق ووسائل ومسارات عمل جديدة لم يكن يدركها من قبل ويتكون لدينا ما سيعرف مستقبلا بالمسلم المهني المحترف مما سيحقق نقلات نوعية كبيرة فهما وتطبيقا وانجازا. خبير تخطيط استراتيجي وتنمية بشرية