ليس للعرب حوار إلا حول مستقبل الثورة المصرية، لأن ما ستؤول إليه التطورات سيكون له أبلغ الأثر وأخطره على مستقبل أكثر من 300 مليون عربى. فى التاريخ القديم والوسيط والحديث كان الدور المصرى هاماً ومؤثراً فى المنطقة كلها ، مما دفع كل القوى الكبرى فى العالم إلى احتلال مصر أو التأثير فى تحولاتها المصيرية. زارتنا جيوش "قمبيز " الفارسى، ، و "أنطونير" الرومانى، و "بطليموس" اليونانى، و" فريزر" الإنجليزى، وآخرهم الاحتلال البريطانى عام 1882م. ورحبت مصر بالفتح العربى الإسلامى بقيادة الصحابى الجليل "عمرو بن العاص" وقاومت جيوش " سليم الأول" العثمانى، ثم انخرطت فى السلطنة العثمانية وأصبحت أكبر ولايتها المؤثرة حتى نصّب أهلها باختيارهم الحر "محمد على باشا" الألبانى والياً رغم رفض السلطان العثمانى. وقام "الباشا الكبير" بعملية تحديث وتطوير هائلة كان قوامها الجيش المصرى، جيش الفلاحيين المطعّم بالشركس والألبان والأفارقة والأتراك والفرنسيين، وأثبت الجيش كفائته فى حروب عديدة انتصر فيها فى البر والبحر، وقامت نهضة علمية وصناعية وتجارية على هامش تلك القوة الصلبة، فأنشأ المدارس والمصانع وازدهرت التجارة والزراعة. وأصبحت مصر دولة فى طريقها إلى الحداثة مع احتفاظها بروحها الإسلامية ، وتماسكها المجتمعى وباتت قاب قوسين أو أدنى لدعم الإمبرطورية العثمانية من موقع مستقل مؤثر. وكان الحصار الأوروبى بقيادة بريطانيا، وتحطيم أسطول محمد على، ومنع انتشار نفوذ مصر إلى أواسط أفريقيا عند منابع النيل ثم دفع السلطان العثمانى لمواجهة حربية مع مصر انتهت بعزل مصر إقليمياً بعد أن تمددت إلى الحجاز والشام وسيطرت على المياهالإقليمية فى البحر الأحمر والمتوسط، وامتد نفوذها إلى السودان وأواسط أفريقيا. وجرت تحت الجسور مياه حتى أصبحت مصر فى قبضة صندوق الدين وتم عزل حفيد "محمد على" الخديوى "إسماعيل" وكانت انتفاضة "عرابى" وثورته لاستعادة روح الاستقلال وكانت النتائج التى نعرفها ودرسناها من الخيانة ثم الاحتلال ونفى الزعيم ومطاردة الثوار حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن. اليوم يقف العالم مصدوماً ومدهوشاً بما يحدث فى مصر، ويريد حصار الثورة المصرية وإجهاضها وإرباكها. ليس كل العالم له هذا الموقف، إنهم الاستعماريون الذين تصوروا أنهم ملكوا الدنيا وسيطروا على مقاليد الأمور. هزم الحلفاء بقيادة أمريكا أعداءهم من "ألمانيا، وإيطاليا، واليابان" فى الحرب الثانية، ثم أعادوا بناء تلك البلاد التى انضمت إلى "الحلفاء" وعاش العالم أجواء "الحرب الباردة" حتى حققوا نصراً بلا حرب على الاتحاد السوفييتى والكتلة الاشتراكية، وخلال تلك الأزمان كان العالم الإسلامى وفى قلبه العالم العربى تحت السيطرة التامة بواسطة عوامل معروفة من أهمها: أولاً: الجيوش التى تم تسليحها لحروب إقليمية وللسيطرة على الحياة السياسية بحكم مباشر أو من وراء ستار ولمنع الشعوب من الثورة أو التغيير عبر الطرق الديمقراطية. ثانياً: النخبة المتغربة التى انسلخت عن ثقافتها وهويتها وأصبح منتهى حلمها أن تقلد المنتصرين فى كل شيء حتى فى التحلل من الأخلاق والقيم والتقاليد . ثالثاً: السيطرة التامة على الإعلام ووسائطه والثقافة ومكوناتها، والتعليم ومناهجه. رابعاً: الاقتصاد التابع الذى يكتفى بالفتات ولا يسعى إلى التنمية الحقيقية أو النهضة الصناعية ولا حتى الاكتفاء من الغذاء. خامساً: الحصار الدائم والمستمر للمؤسسات الدينية الإسلامية، وللحركات الإسلامية الشعبية، ودفع فصائل منها إلى انتهاج العنف حتى يسهل ضربها بقسوة وحصارها فى المجتمعات المسالمة، والتخويف منها باستمرار. سادساً: السعى إلى تحديث زائف ينسلخ بالمرأة عن القيم الدينية والأخلاقية تحت زعم تمكين المرأة ورعاية حقوقها. سابعاً: تغزية النزاعات الأهلية، خاصة الدينية، والمذهبية ، والعرقية ، ورعاية الحروب الإقليمية على حدود صنعها المستعمرون بغية مزيد من تقسيم البلاد الإسلامية كما حدث فى ( تيمور الشرقية) إلى السودان (انفصال الجنوب) إلى المغرب والجزائر وموريتانيا (الصحراء الغربية). كما نرى الحروب الأهلية امتداداً من باكستان التى انقسمت إلى شرقية وغفربية (بنجلاديش ثم نراها فى السودان الذى انقسم إلى الشمال والجنوب ثم العراق الذى يعيش أجواء الانقسام. اليوم وأنا ألتقى بعشرات الوفود من كافة بلاد العالم ، وأتابع وأقرأ تحليلات ومقالات فى أهم مجلات وصحف العالم خاصة الأوروبى الأمريكى أجد أن عقلية حصار الثورات العربية هى التى تسيطر على النخب السياسية والفكرية والصحافية، وأن رفض الأمر الواقع ما زال يخيّم على عقول وأذهان هؤلاء. هذا الرفض للثورات العربية ظهر فى "ليبيا" التى باتت منقسمة وتحت سيطرة "الناتو" ومع كامل التقدير والاحترام للشعب الليبى الذى قدّم حتى الآن عشرات الآلاف من الشهداء ، وللمجلس الانتقالى الذى تعترف به اليوم "لجنة الاتصال" المكونة من 30 دولة إلا أن الثمن الذى دفعه الناتو سيتم مقابلته بثمن باهظ من استقلال ليبيا، وأن الثمن الذى دفعه الشعب الليبى قد يضيع أدراج الرياح وأن "الناتو" سرق ثورة نبيلة لشعب عظيم عانى أربعة عقود تحت حكم مجنون ومهووس أهدر كل فرصة لتحديث ليبيا وبناء نهضتها العظيمة فى مغامرات ومهاترات. وها نحن نرى ما يحدث فى اليمن، وحصار ثورة الشعب اليمنى وحماية الرئيس القاتل والمقتول، برعاية أمريكية وإقليمية . وها نحن نرى سوريا وما يجرى فيها والدور المشبوه لفرنسا وأمريكا لسرقة ثورة الشعب السورى العظيم الذى سينتصر بإذن الله ويقيم سوريا الديمقراطية الحرة المستقلة التى سترعى المقاومة السورية والفلسطينية لتسترد الجولان وتدعم حقوق الشعب الفلسطينيى ليسترد فلسطين بإذن الله، ويحافظ على السلم الأهلى فى لبنان، ويسعى إلى وحدة الشام من جديد، ويدعّم وحدة العراق ليكون ردءاً للعرب وجسراً بين العرب والمشرق الإسلامى كله. أقول هنا لوحدة الأبحاث فى مجلة "الإيكونوميست" وقد التقيت ببعضهم أكثر من مرة وخلال السنوات الماضية، أنكم أخطأتم التقدير، إذا كان ما نُشر فى أهرام السبت 16/7/2011م دقيقاً (ص 8) تحت عنوان : [ " الأيكونوميست تضع ثلاث سيناريوهات لمستقبل الثورات العربية، مصر "بوصلة العرب" أياً كانت السبل التى تتبعها ما بين الديمقراطية أو العودة للديكتاتورية أو الغرق فى الاضطرابات . المنطقة تمر بأصعب مخاض منذ منتصف القرن العشرين .. ولكنها تتحرك خطوتين للأمام وخطوة للوراء" ] كانت هذه هى العناوين التى اختراها الأهرام، وفى نص الملخص المنشور حصر الباحثون سيناريوهات المستقبل فى 3 احتمالات: 1) "حصاد ديمقراطى هزيل" باحتمال وقوعه 60 % ليتضمن مصائر ضبابية فى مصر وتونس، وكوارث وحروب فى باقى الدول. 2) "عودة الديكتاتورية" باحتمال 20 % . 3) "تحقيق التغيير والديمقراطية " باحتمال 20% . ورغم أن المجلة اعتمدت على معيار الديمقراطية لتصنيف الول لعام 2010م ورغم إدراكنا لأهمية المجلة ووحدة الأبحاث فيها، إلا أننا نقول لهم: إنكم أخطأتم التقدير ، فهناك عامل لا يمكن قياسه ولا متابعته، هو الإيمان بالله عز وجل، والإصرار والعزيمة، والتماسك الشعبى، ووضوح ا لهدف أمام الشعوب العربية. هناك عوامل هدم أخطرها هو العامل الخارجى الذى لا يريد أن يرى ديمقراطية فى المنطقة بسبب إصراره على حماية دولة العدو الصهيونى من مصيرها المحتوم، ورغبته فى الحصول على أكبر كمية من البترول بأقل سعر ممكن فى أقصر مدى زمنى لكى تنضب ثروات العرب، ورعايته للنزاعات والحروب والجيوش كى تستمر النزاعات ولا يزال يوظّف قادة عرب يحميهم فى سدة الحكم. وهناك أموال تتدفق على نخب إعلامية وفكريه وسياسية تريد الإبقاء على المنطقة فى الحظيرة الغربية الذليلة لدوافع شخصية وطموحات سياسية إلا أن المستقبل بإذن الله ستضعه الشعوب التى غضبت وانتفضت وثارت ولن تهداً حتى تحقق آمالها فى مصر: دولة حرة ديمقراطية مستقلة تكون بوصلة العرب وأملهم فى وحدة اقتصادية وعربية تمهد لعالم عربى جديد. ولنا عودة إن شاء الله إلى المقال عندما أقرأ النص الأصلى، ولكننى أدعو الشعب المصرى العظيم والنخبة السياسية الواعية إلى ضرورة التأمل فيما يحدث حولنا من تطورات وأن تكون وفية لوطنيتها وللمبادئ التى قدّم الشهداء دماءهم وأرواحهم من أجل بناء مصر الحرّة المستقلة الديمقراطية.