هناك تعبئة لمصر كلها ضد الإرهاب، فهل تتوقف الحياة تماما إلا من وجه واحد فقط، وهو الإرهاب؟. لا صوت يعلو على صوت مواجهة الإرهاب. من يتم ضبطه يتحدث في غير القضاء على الإرهاب فهو لا يهتم بخطر إسقاط الدولة، ولا يعبأ بالتآمر الخارجي على الوطن. الحديث المزدهر اليوم هو حديث الإرهاب والحرب عليه واقتلاعه من جذوره والضرب في المليان لكل هدف إرهابي متحرك أو ثابت أو نائم. تألمت مما شاهدته في الفيديو الشهير، وألمي لمقتل الجنود أشد. أخشى من مناخ التشكيك المتعاظم أن نصل لمرحلة أن يكون كل شخص هو إرهابي حتى يثبت العكس، وينال صك الوطنية الجديدة. تلك الأجواء يجب أن تهدأ، وتتعقلن، وتكون رشيدة، وأن يُترك أمر الإرهاب واجتثاثه من جذوره للجيش بعيدا عن الضجيج الإعلامي ومبالغاته التي ترفع سقف التطلعات، ثم عندما لا يتحقق الهدف في مواجهة الإرهاب أو في غيره من الملفات الكثيرة المفتوحة تحدث صدمة للجمهور تقود للإحباط وفقدان الثقة. في نهاية سبتمبر 2013 نشرت "الأهرام" في خبرها الرئيسي أن إعلان سيناء خالية من الإرهاب خلال أيام، وبعد أكثر من عام نكتشف أن الإرهاب ازداد شراسة وضرب في العصب المؤلم. الحياة يجب أن تستمر وتسير سيرها الطبيعي فمعظم دول العالم واجهت وتواجه الإرهاب ونجد هناك الأوضاع اعتيادية ولا تُستغل تلك الأحداث لتمرير قرارات وقوانين وإجراءات - إلا بانضباط وقدَر- تكون قاسية على المواطنين المسالمين وعلى أصحاب الرأي والموقف والطامحين للحرية ولا تكون كذلك على الإرهابيين المستهدفين. الإرهابي حسم أمره وهو يقاتل لأنه لم يعد حريصا على حياته حيث يعتبر أن مقتله في سبيل الدفاع عن أفكاره ونهجه المنحرف هو أسمى أمانيه ولا أظن أن إرهابيا يريد الحفاظ على حياته بالنجاة من الموت ودخول السجن مثلا. الإرهاب لعنة ومرفوض مطلقا ويجب مواجهته لأنه يدمر الحياة فهو ضد ثقافة الحياة لكن ذلك يكون بمواجهة شاملة عسكرية وأمنية ملتزمة بالقانون ولا تخرج عنه حتى تبقى الدولة دولة ولا تتحول إلى عصابة، ومواجهة سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية وثقافية ودينية. لا تُغلق نوافذ السياسة والحوار والنقاش والحرية والتعبير عن الرأي والموقف والاتفاق والاختلاف وتعارض الآراء عموما، ولا يُستهدف كل صوت معارض، ولا يُقمع أو يُقهر أحد، من يجد الأبواب قد سدت أمامه سيفتح أبوابا أخرى على طريقته وقد تكون خطيرة وتدفعه في النهاية للعنف اللفظي أو البدني، وعندما تكون هناك مظالم اجتماعية وأوضاع اقتصادية ومعيشية بائسة فإن البيئة تكون مهيأة للاندفاع في اتجاه الغضب على السلطة والمجتمع واليأس الذي يقود إلى الانتحار إما بالشكل المباشر أو عبر الانتماء لتيارات العنف بحثا عن الخلاص والحياة الأفضل في العالم الآخر. نواجه الإرهاب، لكن ننفتح سياسيا، وهناك الكثير من الملفات لو تم حلها بالحوار فإنها ستخفف من أي غضب أو احتقان أو انقسام لدى بعض الفئات والقوى السياسية والمدنية حتى لو كانت محدودة وبذلك ستجذبها لصفك وستكون عونا لك في مهمتك. والأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ليست كما كان مأمولا وأكثر المتضررين هم الفقراء والكادحين ومتوسطي الحال الذين يمثلون كتلة شعبية ضخمة جدا وهم الفئات المستهدفة من أي سلطة بحل المشاكل والتخفيف عنهم وهؤلاء هم خزانات العنف والتمرد والثورة. في ظل تلك الأجواء الحربية والتعبوية والتشكيكية والتخوينية والأمنية والعسكرية صرت أخجل من مواصلة تكرار الحديث عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والكرامة والدولة المدنية والحداثة والانفتاح والتسامح والحوار والاستماع إلى الآخر والشفافية والنزاهة والصراحة ومواجهة النزوع للاستبداد والتسلط والفردية والشمولية والطغيان وتقديس الحاكم والتسليم له تماما بكل مقدراتنا وحياتنا، أشعر أن تلك البضاعة صارت بلا سوق وتواجه الكساد وزبائنها يتحولون إلى أقلية منبوذة مكروهة تتوارى عن أعين القوم، أما قنوات توصيل تلك القيم والمعاني للجمهور من إعلام ومنظمات مجتمع مدني وجهات فكر وثقافة وتنوير ومؤسسات حكم فقد صارت مغلقة في وجهها ومفتوحة في اتجاهات أخرى عنوانها الحرب ثم الحرب ولا شيء غير الحرب. هناك تناقضات صارخة في العقلية التي تقوم بدور في تشكل الرأي العام، بعد ثورة 25 يناير حيث كان الحديث عن الدولة المدنية بكل أركانها وقواعدها هو الغالب حتى صار المواطن العادي الذي يستمع لأول مرة لمصطلحات مثل ليبرالية وعلمانية ويسار وإسلام سياسي وتداول سلطة ونزاهة انتخابات والرئيس الموظف لدى الشعب خبيرا في علم السياسة ونظريات الحكم ومدارس الديمقراطية ولكن شيئا فشيئا بدأ هذا الحديث يتوارى، وبدأت طبول الحرب تدق عليه، حتى أصبح ضمن أهداف الحرب على الإرهاب. هل بات أي صوت يتحدث عن الحرية والديمقراطية هو خائن للوطن ولا يستحق العيش فيه، أو هو قادم من كوكب آخر ويتحدث بلسان آخر عن خرافات وأساطير غير موجودة في الأرض التي هبط عليها ؟. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.