ما تعايشه مصرنا الآن من اضطراب أمني وغموض لصورة المستقبل السياسي وفلتان في المساجلات الكلامية أحبط الكثيرين من أنصار الثورة، وأفرز هذا الإحباط بدوره فئات من المشفقين على الثورة وآخرين من المتحسرين على مآلها ناهيك عن الشامتين نسأل الله أن يخزيهم ويرد كيدهم في نحورهم. تلك المشاعر تعيدنا إلى المربع الأول .. للأيام الأولى للثورة الباسلة، فكثيرٌ ممن اعترضوا على ثورة شباب مصر ووقفوا في خندق المؤيدين لمبارك المطالبين ببقاء نظامه، لم يغب عن أذهانهم قط ما كان يمثله هذا النظام من فساد واستبداد كرسهما تحالف المال والسلطة على مدار ثلاثة عقود سببت انهيارًا للمجتمع المصري يرونه ملموسًا ومشاهدًا على كافة الأصعدة، ولم يكن دافع هؤلاء للتمترس خلف هذا النظام، سوى الخوف من المجهول، القلق من الفوضى، والرعب من الانفلات الأمني، خاصة بعد أن ألقت وسائل الإعلام الخبيثة في روعهم رسالةً مؤداها أن مبارك هو الاستقرار والأمان، والثورة هي الفوضى والفلتان. وواقع الأمر واستقراء التاريخ يؤكد أن هذا التوجه الذي يتوجس من الثورة والتغيير له منطقه ووجاهته، فالعراق بعد صدام، والصومال بعد بري، ويوغوسلافيا بعد تيتو، والاتحاد السوفيتي بعد بريجنيف، كلها صور مشتركة وان اختلفت درجاتها من الفوضى والضعف والتمزق والحروب الأهلية والصراع القبلي أو العرقي أو الحزبي، مما قد يثير في الأذهان أسئلة هامة واستفسارات ملحة: هل الطاغية صمام أمان وضمانة استقرار؟؛ وهل كان ينبغي على هذه الشعوب التمسك بالأغلال والمحافظة على القيود والرضا بالذل والهوان في سبيل الأمن و البقاء والاستقرار؟؛ وهل يعد هذا درسًا لدول مثلنا ترزح شعوبها تحت نير الاستعباد وتئن من وطأة القمع فترى ما حل بغيرها وترضى بما هي فيه حفاظًا على النزر اليسير من المكتسبات!؟. بل عليهم أن يشكروا الأقدار التي أبقت لهم الدكتاتور وعليهم أن يسبحوا بحمده ويسجدوا أمام كل صنم من أصنامه المبثوثة في كل اتجاه؟، لا شك أن الإجابة على ما سبق هو "لا و ألف لا". لأن ما وقع في تلك البلاد بعد زوال الطاغية ليؤكد أن الدكتاتور و حاشيته المجرمة و نظمه الظالمة ليس إلا قشرة من طلاء لجدار يبدو متماسكا إلا انه خائر، فعناصره متنافرة وتأسيسه مهترئ و بناؤه مختل، فإذا زالت القشرة الطلائية الخادعة -ولابد لها أن تزول- انهار الجدار على رأس كل من استظل به، فهذا النظام القمعي الذي يحقق الاستقرار عن طريق البطش والتنكيل هو عبارة عن ضمادة بالية رثة على جرح ملتهب تخفي عن العيان ما فيه من قيح وصديد بينما ينخر السوس العظام؛ ويلتهم الدود اللحم حتى الهلاك. و لذلك فإن كل يوم يقضيه الطاغية متربعًا على كرسي السلطة مستوليًا على سدة الحكم، يدعم فساد الشعب وانهيار الدولة، فالقهر يجلب الفقر والتعسف يأتي بالتخلف والترويع يقتل الإبداع والإذلال يورث البلادة، وفي النهاية الكبت يولد الانفجار؛ انفجارًا لا تؤمن شظاياه ولا يعرف مداه، وناره لا تبقى و لا تذر، وهذا هو ما حدث في تلك البلدان وغيرها (ونسأل الله أن يقي مصر شره)؛ لذا فإن كل من يرضى عن بقاء الطاغية ونظامه؛ ولا يسعى لرفع هذا الضيم بقد استطاعته يجرم في حق شعبه و وطنه، والساكت عن الحق شيطان أخرس. إن خير وسيلة للوقاية من ماسي (ما بعد الطاغية) هي التعجيل بإسقاط الطاغية لأن وجوده سرطان فاش في جنبات المجتمع لا ينجو من شره أحد (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة...)، وما وقع في هذه الدول بعد ثورات الشعوب على طغاتها، وما فعله الحكم المصري البائد أثناء الثورة بواسطة داخليته الفاسدة وبلطجية حزبه الوطني المتعفن، هو من عمل طبقة الفقاقيع التي طفت على سطح المجتمع بكل قطاعاته في عهد الطغاة وصنعهم الدكتاتور على عينه من كل منافق متسلق عار من أي موهبة متفلت من كل قيمة. بيد ما أصاب هذه الدول بعد رحيل الدكتاتور ليمثل درسا كبيرا للثوار الأحرار في آليات المقاومة الشعبية، والنظر في المصالح و المفاسد لاختيار أخف الضررين، لذا لقد أحسن شباب ثورة مصر بأن بادروا إلى تكوين لجان منهم تمثلهم أمام المجلس العسكري الحاكم، وإلى جوارها وبالتوازي معها لجنة حكماء من الساسة المخلصين والموجهين الكرام ممن كانوا في صفوف المعارضة الشريفة؛ لكيلا ينفرد لا المجلس ولا الشباب بالقرار الذي قد يعيبه الافتقار للخبرة، مما يؤكد استمرار النهج الراقي السلمي الإصلاحي المتعقل لهذه الثورة الطاهرة المباركة، لأن ما يراد لمصر الأن من فلول النظام الفاسد البائد إن نجحوا لا قدر الله في بلوغه، فالشعب المنكوب هو الذي تدفع الثمن، ليس مرة واحدة بل مرتين، الأولى لسداد التركة الفاسدة للمخلوع وزمرته، والثانية ثمنا لتسرع الثوار المتعجلين لقطف ثمرة رووها بعرقهم ودماء رفاقهم، وقد يترتب على إزالة منكر كبير هو السلطان الجائر منكر أكبر هو ترويع الآمنين و ضياع الأرواح والأعراض والأموال و تدمير الدولة وإهدار ثرواتها وإفساد أحوال البلاد والعباد. ونعود لما بدأنا به من هواجس المتخوفين على مصر مما بعد رحيل المخلوع، فلا يخفي على ذي لب أهمية نعمة الأمن والاستقرار وأثرها على تقدم الأفراد ونمو المجتمعات لذلك امتن الله بها على أهل مكة (الذي أطعمهم من جوع و آمنهم من خوف)، كما وعد بها المؤمنين في الدنيا (وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا..)، و في الآخرة (و هم من فزع يومئذ آمنون)، فعلى كل من يفكر بالتغيير مهما كان إخلاصه أن يراعي ذلك، وهذه وصية واجبة آمل من كل فصائل الثورة أن يعقلوها ويلتزموا بها. ولآننا نشرع في بناء مجتمع جديد وليد فيجب على كل الثوار الأطهار حراس الحرية والكرامة والعدالة المخلصين لبلدهم وشعبهم أن يقفوا سدًا منيعا يحول دون وصول الأفاقين والمغامرين إلى التسلط على رقاب العباد وأن يقاوموهم بكل متاح مباح، وألا يتفردوا بهذه المقاومة بل يقودوا الشعب في معركة العزة والنهضة والتنمية والأمن، تلك هي صمامات الأمان لا سطوة الطغيان ولا ثورة البركان.