فى أواخر القرن التاسع عشر شاع فى أدبيات السياسة مصطلح رجل أوروبا المريض وكانت الدول الاستعمارية الكبرى تقصد به الدولة العثمانية والتى كانت وصلت إلى درجة من الضعف والترهل وضعتها على سرير الموت الإكلينيكى ولم يكن فى انتظارها سوى رصاصة الرحمة وكانت الدول الاستعمارية حريصة على إبقائها على هذه الحالة ريثما يتم الانتهاء من وضع اللمسات النهائية لتوزيع ميراث الرجل المريض ومضت الأحداث كما هى معروفة ومحفوظة واليوم تجتهد العقول وتتماهى الكتابات فى الحديث عن مستقبل المنطقة العربية بعد سقوط نظامها الحالى إذا لم يعد أحد يخالجه شك فى أن النظام العربى الحالى قد دخل مرحلة الموت " السريرى " ولولا تدفقات الأموال النفطية وقوة الأجهزة الأمنية " السيادية " لسقط منذ فترة طويلة . فالنظام العربى الحالى الذى بدأ تشكله منذ أواسط القرن الماضى على عين الدول الاستعمارية وتحت رعايتها لم يستطع مواجهة التحديات الحقيقية التى تواجه المواطن العربى فالمنطقة العربية هى الأعلى أرقاماً من حيث نسب الفقر والأمية والتخلف العلمى وتفشى الأمراض المتوطنة ناهيك عن غياب الحريات واتعدام الديمقراطية وشيوع ثقافة التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان . النظام العربى الحالى كان أحد الورثة غير الشرعيين الذين آلت إليهم بعض ممتلكات " الخلافة " العثمانية برعاية الدول الاستعمارية ولكنه لم يتمكن من الحفاظ على هذه الممتلكات فضاعت فلسطين والعراق وتقننت الدول " القومية " وخاصة التى تبنت شعارات الوحدة والدولة العربية الموحدة فى تفتيت " المقسم " وتعميق الشعور بالعزلة لدى الشعب العربى الذى كان " واحدا " فصار بفعل هذا النظام وتحت رعاية جامعته العربية أجزاءا مبعثرة وجزراً منفصلة استأثر القليل منها بالثروة التى جاءتهم على غير سابقة ميعاد فلم يحسنوا استغلالها ولا توظيفها لرفع مستوى معيشة بقية " أشقاء " الدم والنسب واكتفوا بجلب " الأشقاء " للخدمة والرعاية والتوظيف !! وكانت الجريمة العظمى لهذا النظام المتهالك وقوفه أمام رغبات الشعوب العربية فى النيل حريتها واستعادة كرامتها واجتهاده من التخلص من الأنظمة التى وصلت للحكم عن طريق صناديق الاقتراع ووفق إرادة شعوبها فكانت النتيجة الطبيعية كفران جزء كبير من الشعوب بطرق التغيير السلمية تحول قتاعتها إلى أن القوة لابد وأن تواجه بقوة مماثلة . هذا النظام المتهالك كان عبئاً حقيقياً على الشعوب العربية وكان بمثابة الشرطى الأمين للدول الاستعمارية الكبرى وظل محافظاً على مصالحها ، ولم يعد فى وجهه مسحة حياء تمنعه من التحالف مع الشيعة فى ضرب الأغلبية السنية فى العالم العربى عبر التمكين لهم فى لبنان والعراق وسوريا وأخيرا اليمن . على النقيض من الرجل العربى " المريض " يقف أردوغان وحكومته فى مواجهة الأعاصير التى تعصف ببلاده والتى يشترك النظام العربى " الرسمى " فى جزء منها عبر تدخلاته المتكررة فى الشأن التركى عبر بوابة الأقليات " العرقية والطائفية والسياسية " فأحداث ميدان تقسيم العام الماضى - على سبيل المثال - ثبت ضلوع دولة الإمارات فيها والإنفاق عليها بسخاء أردوغان يقف فى وجه أزمة هى الأعنف فى تاريخ الجمهورية التركية خلال العشرين سنة الماضية ولكنه بالرغم من عنف الأزمة إلا أنه وضع مصلحة شعبه فوق جميع الاعتبارات ورفض الرضوخ لطلبات أمريكا والناتو ( رغم أن تركيا عضو فيها ) وكانت شروطه واضحة لاشتراكه فى الحملة الدولية على تنظيم الدولة الإسلامية وهى إسقاط نظام بشار لأنه من غير المعقول تجاهله بعد كل المذابح التى ارتكبها كما أن أردوغان يعتبره سببا مباشراً لظهور تنظيم الدولة الإسلامية ، كما اشترط أردوغان إقامة منطقة عازلة على الحدود السورية – التركية ، إضافة إلى إقامة منطقة حظر للطيران . ورغم الضغوط التى مورست عليه إلا أن رفض حتى الآن تجاوزالشروط التى وضعها ، كما أن موجة الاضطرابات الداخلية التى واجهته على مدار الأيام الماضية من أعضاء تنظيم حزب العمال الكردستانى ( PKK ) لم تؤثر فى موقفه بل إن اللافت فى خطابه مؤخرا اتجاهه إلى استدعاء التاريخ بصورة مكثفة مذكراً الدول الغربية إضافة إلى الممالك والمشيخات العربية بما فعلوه من تربيطات ومؤمرات فى حق الدولة العثمانية ففى كلمة له مؤخراً فى جامعة اسطنبول شن أردوغان هجوما غاضبا على من وصفهم بأمثال «لورانس العرب» الجدد الذين قال إنهم مصممون على إحداث الاضطرابات في الشرق الأوسط. والمعروف تاريخياً أن لورانس كان ضابطا بريطانيا ساهم فى إحكام المؤمرات ضد الدولة العثمانية بالاتفاق مع أصحاب الجلالة والفخامة والسمو حينها !! فمن كان يقصد أردوغان بالإشارة هنا ؟!! كما أشار أردوغان فى كلمته إلى اتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة التى قسمت بمقتضاها الدول العربية بعد الحرب العالمية الأولى حيث قال : "إنهم يصنعون اتفاقات سايكس بيكو وهم يختبئون وراء حرية الصحافة وحرب الاستقلال أو الجهاد" إن أردوغان هنا كان يشير بوضوح إلى الجزء المخفى من حرب أمريكا وحلفائها من المشيخات العربية والذى كان يستهدف تصدير الأزمة للدولة التركية واستهداف استقرارها السياسى والاقتصادى عبر بوابة الحرب على " داعش " وتلك قصة أخرى آتية لابد من حكايتها ..... وللحديث بقية .