هي ظاهرة تحتاج إلى دراسة متأنية لفهم أبعادها والوصول إلى أسبابها لاسيما في الدول العربية والإسلامية، وكذلك العالم الثالث الذي نَشْرُفُ بالانتساب إليه قسرًا، فمعمر القذافي الذي يحكم ليبيا البائسة منذ 42 عاما -ويسعى الشعب الآن إلى خلعه سعيًا دؤوبًا- يُعتبر أقدم الحكام في عالمنا العربي والإسلامي، أما علي عبد الله صالح الذي فيتولَّى زمام السلطة في اليمن منذ عام 1978م ويرفض حتى الآن التخلي عن السلطة والرحيل عن بلدٍ أنهكه الفقر ومضغ (القات). أما في مصرنا المحروسة فيُعتبر الرئيس السابق محمد حسني مبارك ثالث الحكام مُكُوثًا في الحكم بعد رمسيس الثاني الذي ظل قابعًا فوق صدور أجدادنا المصريين لمدة 67 سنة من عام 1279 حتى 1212 قبل الميلاد، وربما كانت هذه الأعوام السبعة والستين مدة يسيرة قياسًا بالأعمار الطويلة التي كان يعيشها الناس آنذاك قبل أن يعرفوا (أمراض الكبد) و(الفشل الكُلوي) و(الأغذية المسرْطِنة)، ومحمد على الذي حكم مصر مدة 43 عامًا بين عامي 1805 إلى 1848م وإليه يُنسب الفضل في تأسيس مصر الحديثة بالرغم من تأصيله لمبدأ التوريث الذي ظللنا نعاني منه حتى سقوط نظام مبارك البوليسي. كل هذه الأمثلة وغيرها من النماذج التي تموج بها الساحة تجعلنا نطرح تساؤلًا بريئًا ومشروعًا: لماذا يلتصق الحكام بالكراسي؟! أو بشكل آخر: لماذا تلتصق الكراسي بالحكام؟! إن الحُكم الديكتاتوري المتسلط –كما يقول عبد الرحمن الكواكبي في كتابه القيِّم "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"- يقوم على ثلاثة أعمدة رئيسة هي: الحَاكِم، المتمجِّد، الرَّعية، والثاني والثالث هما السبب المباشر في تمسك الأول بالحكم لفترات طويلة لا تنتهي إلا بأقرب الأجلين: الموت أو الخَلْع، وفي الغالب يُعاني هؤلاء الحكام السلطويون من أدواء نفسية منها التوحد مع الكرسي بحيث لا يقوى على فراقه، ولا يأنس إلا به، ولا يأمن غيره من الأرائك ولو كانت مريحة هي الأخرى. ولئن سألنا حُكَّامنا عن سبب هذا التشبث القوي بالكراسي لتنوعت إجاباتهم وتعددت مبرراتهم الواهية كأنما يخاطبون شعوبا بلهاء لا تعرف من أمر حياتها شيئًا.. فمثلا يقول أحدهم إنه يخشى على الأمة من الضياع بعده إذا وُسِد الأمر إلى قُوى معارِضة تجر البلاد إلى ويلات لا يعلم مداها إلا الله!! ويقول آخر: إن عدم وجود كفاءات لتولي مهمة الحكم والقيام بأعبائه الجسيمة هو سبب تمسكه! ويستبق ثالث الأحداث ليعلن أنه يؤصِّل لقيام حالة أفضل من الجو الديمقراطي – على اعتبار أن حكمه أصلا ديمقراطي!! كل هذه المبررات لا تَرقى إلى مجرد التصديق من قِبلِ شخص عنده أثارة من علم بالسياسة وألاعيبها، فمن قال إن إسناد الحُكم إلى المعارضة في بلد من البلدان سيجرها إلى الويل والثبور وعظائم الأمور؟! فالأحزاب في أمريكا وبريطانيا وحتى إسرائيل وغيرها من الدول تتناوب على الحكم تماما كلعبة الكراسي الموسيقية -التي كنَّا نلعبها وقت أن كنَّا صغارا- ولم نسمع مثل هذه المبررات السخيفة التي لا سند لها من الحياة السياسية!! ومن قال إن البلد خالية من الكفاءات التي تستطيع تحمل أعباء الحكم؟! وإذا صحَّ هذا الكلام فمن المسئول عن تجريف هذه الكفاءات واضهادها حتى صارت طيورونا تغرد على أشجار الآخرين وتطربهم، واستبدلوهم بالغربان التي لم تجلب لنا غير الشؤم والضياع؟! أوليس من مسؤليات السادة الحكام أن يصنعوا أجيالا قادرة على تحمل المسئولية ومنها الحكم؟! ثم إن أغلب هؤلاء الحكام لم يتولوا أزِمَّة الحكم عن استحقاق وكفاءة؛ فهذا عن طريق انقلاب، وهذا عن طريق القوى الكبرى في العالم، وهذا استيقظ من نومه ليجد نفسه رئيسًا مثلما حدث مع رئيسنا المفدَّىَ الذي قال إنه لم يكن يطمح في أكثر من تعيينه سفيرًا في لندن!! من قال إن الحاكم الذي ظل طيلة حياته يمارس السلطة المطلقة حتى أدمن الديكتاتورية سيتحول بقدرة قادر أو حتى بعصا موسى إلى مُؤصِّل للديمقراطية الأمريكية وحامل لرايتها العالية، متخلِّيًا عن النظام البوليسي الذي ظل يحتمي به سنواتٍ طوالا هي على شعبه أشد من سِنيْ يوسف؟! إن حرص الحكام على كراسيهم ما هو في الحقيقة إلا مرض مُكتَسبٌ (تماما كنقص المناعة المكتسبة المعروف بالإيدز).. أو ك (قرحة الفراش) وهو المرض الذي يصيب المرءَ بسبب عدم تدفق الدم إلى أجزاء بعينها كلما طالت مدة بقائه في الفراش. ولأن من يُنشَّأُ في الحلية ويُجربُ حياة الخَدَم والحَشَم يصعب عليه مغادرة القصور الفخمة، حيث تعوَّد هنالك أن يَأمر فيُطاع، وأن يقولَ فيُستَمَعُ إليه، فإن الحكام يفضلون نار الحُكم على جنة التقاعد، ولعل في ابن علي ومبارك والقذافي وصالح والأسد وغيرهم نماذج حية وملموسة لهذا التشبث المذموم بالحُكم وسُدته، وأضحى الثلاثي الأخير مضرب المثل في هذا التشبث الدموي، حيث لا يزالون يصرون على البقاء في الحكم ولو على جماجم شعوبهم وجماجمه.. فهل ستضع الثورات العربية حدًا لهذه الأنظمة الديكتاتورية التي تعفنت على كراسيها وعششت العناكب في رأسها فلم تعد قادرة على الفهم والإدراك؟! أم تكون أمتنا كمن نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا؟! - كاتب وإعلامي مصري [email protected]