فور عودة الرئيس السيسي من نيويورك فتحت بوابات من الانحطاط والبذاءة الإعلامية ضد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ، بسبب كلمته التي قالها أمام الأممالمتحدة وألمح فيها إلى لوم المنظمة الدولية لاستقبالها قيادات أطاحت بالمسار الديمقراطي في بلادها وانقلبت على رئيس منتخب وأراقت دماء المتظاهرين ، في إشارة واضحة إلى الحالة المصرية ، وأردوغان صاحب موقف حاد جدا وواضح جدا تجاه الشأن المصري ، والمسألة عنده مسألة مبدأ بالغ الخطورة ، لأنه كما يقول المثل الدارج عندنا "اللي اتلسع من الشوربة ينفخ في الزبادي" ، وأردوغان وكثير من قيادات حزبه "اتلسعوا" مرارا وتكرارا من انقلابات العسكريين على المسار الديمقراطي ودخلوا السجون بفعل ذلك وحكم على قياداتهم الحزبية بالإعدام ، وبعضهم أعدم فعلا وبعضهم خفف الحكم للسجن مدى الحياة ، وهذا مسلسل شهير في تركيا لم ينته إلا بعد أن نجحت تجربة أردوغان في الانتقال التدريجي بتركيا إلى المسار الديمقراطي وجعل المؤسسة العسكرية جزءا من مؤسسات الدولة المدنية بدون وصاية أو قدرة في وقف المسار المدني أو الإطاحة بانتخابات ، وربما بدون رغبة من عسكر تركيا حاليا . هذه التجربة المريرة تلقي بظلالها دائما على مواقف أردوغان وتجعل لديه حساسية عالية جدا تجاه أي تدخل عسكري في المسار السياسي لأي دولة ، فما بالك بمصر وهي كبيرة الشبه بتركيا تاريخا وحضارة ومكانة ، ولا بد من فهم تلك الخلفية قبل أي انتقاد لأدوغان على موقفه تجاه ما يحدث في مصر ، فهذه قناعته الحقيقية وهذه خبرته بغض النظر عن أطراف الأزمة في مصر ، ولو وافق أردوغان على ما حدث في مصر فسوف يكون ذلك منه جواز مرور رسمي وأخلاقي لأن يفعل به ذلك في تركيا ، وكلنا يذكر المظاهرات المفتعلة التي حركتها أجهزة وأقليات عرقية وطائفية ضده قبل عدة أشهر بهدف إسقاطه أو إجبار الجيش على الإطاحة به . وموقف أردوغان ليس استثناءا ، فالدول الأفريقية نفسها كانت لها نفس الرؤية وبعضها ما زال لديه مثل هذه الرؤية لأحداث مصر ، مثل جنوب أفريقيا ، وظلت مصر مستبعدة من القمة الأفريقية بكل أشكالها عاما كاملا بسبب تصنيف الاتحاد الأفريقي لما حدث فيها بأنه انقلاب عسكري على الرئيس المنتخب ، وكثير من دول العالم كانت وبعضها ما زال ، يعتقد بذلك ويراه ، وبعض كبار المحللين الغربيين عقب الإطاحة بمحمد مرسي كتب يقول أن ما حدث في مصر انقلاب "كما يقول الكتاب" حسب قوله ! . لماذا نقول كل ذلك ، لكي تتوقف هذه الموجة المسفة والبذيئة التي تشتم أردوغان بألفاظ سوقية وفاحشة ، لا تليق بإعلام يحترم نفسه أو بلده أو حتى قيادته التي يزعم أنه يدافع عنها ، خاصة إذا كانت هذه البذاءات تضر بمصالح مصر الحقيقية والعميقة ، والمدهش أن السيسي كان أكثر عقلا وواقعية من هؤلاء الذين يمسحون بذاءتهم في ثيابه ، عندما قال أنه لا يرد على تهجم أردوغان لأن مصالح مصر أهم . مصالح مصر كشف عن جانب منها اليوم الحكومة المصرية ممثلة في وزير السياحة الذي قال (أن تركيا في العام الماضي نجحت في أن تهدي لمصر اثنين مليون سائح أوربي ، مثلوا ثلث الدخل القومي المصري من قطاع السياحة) ، الوزير هشام زعزوع أضاف قائلا في مؤتمر صحفي اليوم : (نحن نرحب بأي مستثمر تركي داخل مصر.. وليس هناك علاقة للمستثمرين الأتراك بالتوترات السياسية بين البلدين) ، وكرر الوزير القول : (الشركات التركية ناجحة في جذب السائحين من عدة دول أوروبية، وعلي رأسها روسيا إلى وجهات سياحية من بينها مصر)، واضاف (هناك فارق كبير جداً بين السياحة والسياسة) . رئيس الوزراء التركي الجديد أحمد داوود أوغلو من جانبه أكد اليوم على احترامه وتقديره لمصر ومكانتها ، وقال في المنتدى الاقتصادي العالمي الذي عقد في اسطنبول : (إن تركيا تولي اهتمامًا شديدًا بمصر لأنها العمود الفقيري للمنطقة، وتتمنى أن تكون أكبر شريك استراتيجي لتركيا خلال الفترة المقبلة) ، ولكن أوغلو أوضح عن موقف تركيا السياسي بصراحة قائلا : (إن تركيا اتخذت موقفًا واضحًا حيال ما جرى في مصر، وأنها دفعت الثمن باهظا جراء هذا الموقف، ومصر تشبه تركيا إلى حد كبير، ولن تتحقق الديمقراطية فيها إلا عبر الاستجابة للإرادة الشعبية) ، وكشف أوغلو أن موقف بلاده يأتي من منطلق أن تعثر الديمقراطية يفتح الطريق أمام الإرهاب وأضاف قوله : (إن التخلي عن دعم الحركات الديمقراطية في المنطقة، وبخاصة في سوريا والعراق، تسبّب في ظهور خطر الإرهاب فيها) . الموقف التركي ، وسواء اتفقت معه أو اختلفت ، ينطلق من خبرات حقيقية ، ومنطق أخلاقي ، ووعي سياسي عميق بمآلات السياسات الخاطئة والفصل العقلاني بين مصالح الشعوب واقتصاد الدولة وبين الخلاف في الموقف السياسي ، وبقي أن يكون هنا في القاهرة عقلاء أيضا ، يعرفون حدود الاختلاف وضرورات المصالح الوطنية الكبرى ، وكذابين الزفة يمتنعون بالضرورة .