بلجراد , 7 مارس (آي بي إس) - عندما ولدتُها لم أكن أريد أن أراها... ولكن في اليوم التالي عندما ضممتها إلى صدري أدركت أنها الشيء الوحيد الجميل الباقي لي في هذا العالم، ولهذا فقد احتفظت بها". بهذه الكلمات شرحت إسما، نادلة بوسنية، ما الذي جعلها تحتفظ بطفلتها المتمردة سارة، 13 عاما، في الفيلم المؤثر والحائز على جوائز سينمائية “جربيفيتشا”، وهو من تأليف المؤلفة الشابة ياسميلا زبانيتش، 31 عاما، من سراييفو. وفي الفيلم تصبح إسما، وهي طالبة سابقة في كلية الطب، حاملا في مدينة سراييفو التي مزقتها الحرب عام 1992، بعد أن تم اغتصابها على أيدي جنود صرب في بيتها بجربيفيتشا. لكنها تخبر ابنتها سارة أن والدها، بوسني مسلم، قد مات “شهيدا” وهو يدافع عن سراييفو. لكن الحقيقة المرعبة تظهر عندما تحتاج سارة إلى شهادة بموت والدها من أجل الحصول على رحلة دراسية مجانية مع مدرستها. وتتعرض الأم والابنة للانهيار، ثم يتعاركان، لكنهما يتصالحان من جديد رغم هذا السر المظلم. لكن هذه النهاية السعيدة بعيدة عما يحدث بالفعل في البوسنة؛ حيث قالت زبانيتش أمام الجمهور في برلين بعد تسلمها لجائزة الدب الذهبي لأفضل فيلم منذ أسبوعين: "إن محنة ضحايا الاغتصاب في البوسنة أبعد بكثير من هذا". وتتعرض ضحايا الاغتصاب لإعراض الأسرة والأصدقاء عنها؛ حيث يسم العار معظمهن، وتواجه صدا من المجتمع والناس إذا حدث وعرفوا الحقيقة. وغالبا ما كان يُدفع بالأطفال الذين جاءوا نتيجة لعمليات الاغتصاب إلى ملاجئ الأيتام في البوسنة أو كرواتيا المجاورة، وفي أحيان نادرة يُدفع بهم إلى من يتبناهم. ومن ثم يكبر هؤلاء وهم لا يعلمون شيئا عن والديهم. ولا يحتفظ المسئولون عن ملاجئ الأيتام في توزلا وزينيتشا في البوسنة، وفلاديمير نازور وجولجاك في كرواتيا بسجل لأصل هؤلاء الأطفال أو أماكن وجودهم. وقالت زبانيتش أمام جمهور صربي أثناء عرض الفيلم في مهرجان الفيلم المحلي مساء الاثنين: "إننا أتمنى أن يكون هذا العرض في بلجراد بداية لإغلاق دائرة. وهذا لأن أساس هذا السيناريو عمليا قد كُتب هنا". وتُتهم القوات الصربية المدعومة من بلجراد في البوسنة بقيامها بحملة اغتصاب منظمة ضد النساء البوسنيات في الحرب التي دامت ثلاث سنوات، والتي رفضت فيها القوات الصربية تحرك البوسنيين، الذين كانا معظمهم من المسلمين، نحو الاستقلال. ولازالت هذه القضية تُعتبر من المحرمات في صربيا، حيث يسود إنكار عام لحدوث هذه الحوادث على الإطلاق. وفي حوار مع آي بي إس قالت ناشطة حقوق الإنسان ناتاسا كانديتش: "لازال هذا الأمر خلافيا ويحتاج إلى توضيح أمين من أجل معرفة حقيقة الحرب في البوسنة؛ فالتلاعب بالأرقام لا يخدم الحقيقة عند أي من الجانبين". وتحدد الوثائق المقدمة من الحكومة البوسنية زمن الحرب عام 1993 عدد ضحايا الاغتصاب من 20 ألفا إلى 50 ألفا. وقد وُصفت أعمال الاغتصاب بأنها "أشد أشكال الانحطاط البشري والعنف المهين، وأنها مثلت سياسة عدوان صربية". وقد انتهت تقارير دولية صادرة عن لجنة بقيادة الاتحاد الأوروبي وتقرير صادر عن الأممالمتحدة إلى أرقام مختلفة تماما لضحايا الاغتصاب. ففي عام 1993 قال تقرير الاتحاد الأوروبي إن عددهن يصل إلى 20 ألفا، بينما انتهى تقرير للأمم المتحدة في عام 1994 إلى أن الرقم أقل من 150. وهذا الرقم الأخير غالبا ما يُنقل عن القوميين الصرب الذين ينكرون حدوث أي فظائع في الحرب البوسنية. وقد أصدرت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة على ثلاثة رجال، وهم دراجوليوب كوناراتش، ورادومير كوفاتش وزوران فوكوفيتش حكما بالسجن يصل إلى مجموعه إلى 60 عاما بسبب جرائم الاغتصاب التي ارتكبوها في مدينة فوتشا بشرق البوسنة عام 1992، حيث كانوا قد أقاموا هناك معسكرا للنساء المسلمات. ومع مرور السنوات تم تنحية الموضوع جانبا، مع الاستشهاد بالأرقام بشكل انتقائي، ومع تجاهل الضحايا بشكل كامل. وقد صدر كتاب يتحدث عن الرعب في حياة ضحايا جرائم الاغتصاب، وهو كتاب "كسر أسوار الصمت"، للكاتبة سيادا فرانيتش. وقد انتهت فرانيتش إلى أنه تم الإبلاغ عن حالة واحدة فقط من بين كل عشر جرائم اغتصاب. وفي دراسة جرت في مايو 1997 قامت بها منظمة ميديكا زينيتشا غير الحكومية بوسط البوسنة قالت المنظمة إن نسبة واحد إلى أربعة بالمائة من بين ضحايا الاغتصاب قد حملن بسبب الاغتصاب. كما صرحت فضيلة ميميسيفيتش، رئيسة جمعية سراييفو للأشخاص المعرضين للخطر، في حدث أدلت به لوسائل الإعلام المحلية: "لقد أصبحت هؤلاء النساء ضحايا مرتين، مرة عندما تم اغتصابهن، ومرة أخرى عندما جرى نسيانهن بعد ذلك". وقد تبنت وسائل الإعلام البوسنية الموضوع بعد فوز فيلم “جربيفيتشا” بجائزة مهرجان برلين السينمائي. وقالت فضيلة ميميسيفيتش في مقابلة مع صحيفة “فيسيرني ليست” الكرواتية: "إن القضية سوف تتفجر الآن (بعد الفيلم). إنني ألتقي بشكل يومي بالعشرات من ضحايا الاغتصاب وأطفالهن، لكن لم تقم أي أم من بينهن بإطلاع طفلها على الحقيقة، وهنا ينبغي على المجتمع أن يلعب دورا، لكن المجتمع البوسني لا يبدو مستعدا لهذا". وقالت ميميسيفيتش إنه لا توجد فِرق من المتخصصين النفسيين الذين يمكنهم تقديم النصح والمشورة للنساء فيما يتعلق بكيفية التعامل مع هذه القضية. وأضافت ميميسيفيتش: "إن وزارة العمل المحلي والرعاية الاجتماعية ليس لديها أية فكرة عن عدد الأطفال الذين جاءوا من طريق الاغتصاب، وهم لا يعتبرون الأطفال أو أمهاتهم مجالا للرعاية الاجتماعية. وقد حاولوا في العام الماضي إعداد قائمة بهؤلاء الأطفال لكنهم توقفوا". وقد صرحت مصادر موثوقة في سراييفو لآي بي إس بأن وكالة الأممالمتحدة للطفولة (اليونيسيف) قد أمرت بتقديم تقرير بشأن الأطفال المولودين نتيجة لحرب الاغتصاب في البوسنة. وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها منظمة بالتركيز على هؤلاء الأطفال، ومع هذا فإن التقرير لم يُنشر لأسباب غير معروفة. وفي النهاية تُترك ضحايا العنف الجنسي لمصائرهن رغم الشهرة الواسعة للفظائع التي ارتُكبت في الحرب. وقد تعرضت الكثيرات من هؤلاء الذين تخلت عنهم الدولة لصدمات نفسية، إضافة إلى الفقر. وبالإضافة إلى هذا فإن قليلات من بين هؤلاء المنبوذات من مجتمعاتهن، واللاتي تخلى عنهن أزواجهن في أغلب الأحيان، هن اللاتي يمكنهن الحصول على وظائف. وقد تلقى عدد ضئيل منهن تعويضات عن معاناتهن، التي لازالت مستمرة في صورة كوابيس، وضرر بدني، وضعف نفسي. وتعليقا على الفيلم قالت فضيلة ميميسيفيتش: "في الحياة الواقعية لا توجد نهاية سعيدة كما في فيلم “جربيفيتشا”". المصدر : ( آي بي إس )