صربيا ومونتينيجرو تلك الدولة التي تكافح اليوم من أجل أن تجد لنفسها مكانًا في أوروبا تتعرض الآن لخطورة أن تصبح أول دولة على الإطلاق يتم وسمها رسميًا بتهمة ارتكاب جرائم إبادة جماعية, وذلك حيث إن القضاة قد بدءوا الأسبوع الماضي سماع تلك الدعوى التي أقامتها البوسنة بخصوص الجرائم التي تم ارتكابها أثناء الحرب التي اندلعت في بداية التسعينيات. هذه القضية من الممكن أن تجعل صربيا - والتي تعد وريثة لدولة يوجوسلافيا - عرضة لدفع تعويضات يبلغ مقدارها عشرات المليارات من الدولارات. ولكن مسلمي البوسنة يقولون: إن أهمية القضية تكمن في شيء آخر, وهو في وضع حساب دقيق وغير قابل للتحدي لذلك الصراع الذي لا يزال يفسد السياسات الإقليمية. يقول ثاقب سوفتيك - كبير المحامين البوسنيين في محكمة العدل الدولية في لاهاي-: "من أجل مستقبلنا, من أجل علاقات نظيفة مع جيراننا, نحن في حاجة إلى رؤية واضحة لماضينا ولمستقبلنا". وأضاف سوفتيك: "المحكمة الدولية لديها السلطة, من خلال قراراتها, لتخليص ماضينا من هذه المشاكل كي نمضي نحو المستقبل". وبينما تتولى محكمة دولية أخرى في لاهاي محاكمة الأفراد, ومن بينهم الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوسيفتش الذي قضى فيه سجنه على ارتكابهم لجرائم حرب, تختص محكمة العدل الدولية "آي سي جي" بالنظر في النزاعات الدولية بين الدول. ويتعين على البوسنة أن تثبت للمحكمة ليس فقط حدوث إبادات جماعية من خلال سياسة "التطهير العرقي", ولكن عليها أيضًا إثبات أن ميليشيات الصرب التي قامت بارتكاب هذه الجرائم قد قامت بهذا بناءً على أوامر المسئولين بالحكومة اليوغسلافية, وبدعم منهم. وصرح السيد سوفتيك لفريق القضاة المكون من 16 قاضيًا في تصريحاته الافتتاحية الأسبوع الماضي أن الجانب البوسنى "يسعى لإلقاء المسئولية على الدولة التي قامت, من خلال قياداتها ومن خلال أعضائها, بارتكاب أكثر الانتهاكات وحشية لأكثر نصوص القانون الدولي قدسية". ومن المتوقع أن يحاول محامو صربيا أثناء مرافعاتهم هذا الأسبوع أن يثبتوا أن المحكمة ليست لها أية سلطة قضائية في هذه القضية؛ لأنه في الوقت الذي تم فيه رفع تلك الدعوى القضائية في عام 1993, لم تكن جمهورية يوغسلافيا السابقة تعتبر عضوًا في الأممالمتحدة, وبالتبعية لم تكن عضوًا في محكمة العدل الدولية. وقد كانت هذه هي الأسس التي رفضت المحكمة بناءً عليها إحدى القضايا التي رفعتها صربيا ومونتينيجرو في عام 2004 ضد القصف التي تعرضت له صربيا بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية أثناء حرب كوسوفو عام 1999. ومن المتوقع أيضًا أن يحاول محامو صربيا أن يثبتوا أنه مهما بلغت بشاعة الجرائم التي ارتكبت في البوسنة من قبل قوات صرب البوسنة, مثل المذبحة التي قتل فيها ما يزيد عن 8000 رجل وطفل من مسلمي البوسنة بالقرب من سريبرينيكا, فإن السلطات في بلجراد ليست مسئولة عنهم. وتشكل هذه القضية تحديًا لمحكمة العدل الدولية, التي اعتادت أكثر على النظر في القضايا المتعلقة بالفصل في الدعاوى الإقليمية المتعلقة بالنزاعات على الحدود بين الأمم. يقول إيمانويل ديكو - أحد أساتذة القانون الدولي بجامعة باريس-: "إنها قضية سياسية للغاية, وسوف يكون الفصل فيها أمرًا خطيرًا". ففي مجال القانون الإنساني الدولي, تم تهميش دور محكمة العدل الدولية من قبل محاكم أقيمت خصيصًا للنظر في جرائم الحرب, مثل تلك المحاكم التي أقيمت في لاهاي للحكم في القضايا الناشئة عن حروب البلقان, ومثل المحاكم التي أقيمت في أروشا وتانزانيا لمحاكمة الأفراد المسئولين عن جرائم الإبادة الجماعية في رواندا, بالإضافة إلى محكمة الجرائم الدولية المنشأة حديثًا, والتي لم تنظر في أية قضية حتى الآن. يقول نيقولس هاون, رئيس اللجنة الدولية للقضاة والتي تتخذ من جنيف مقرًا لها: "إننا نعمل على إنشاء نظام من المحاسبة الدولية عن انتهاكات حقوق الإنسان. هناك حاجة إلى القبض على الأشخاص المسئولين, ولكن سيكون هناك فجوة كبيرة إذا لم تستطع أن تثبت أن آليات الحكومة مسئولة أيضًا". ومن غير المتوقع أن يصدر قرار المحكمة الذي تنتظره بلهفة البوسنة والهرسك قبل أواخر هذا العام. ويقول رفيق بيجيك, رئيس البلدية المسلم لمدينة براتوناك ذات الأغلبية الصربية في شرق البوسنة: "إنني أتوقع أن تصدر المحكمة قرارها بتجريم صربيا". وأضاف قائلاً: "إذا كنا نرغب في أن نأتمن بعضنا البعض ونقيم علاقات جيدة فيما بيننا, فنحن في حاجة إلى أن نعرف ماذا حدث هنا". وفي تصريح لصحيفة نيزافيزن نوفين التي تصدر في منطقة سربرسكا التي تقع في البوسنة ويحكمها الصرب, قال نائب رئيس الوزراء الصربي, ميرليوب لابوس: إنه وعلى الرغم من ذلك يرى زعماء الصرب أن قيام البوسنة بالنبش في الماضي وتقريعهم عليه لن يكون في صالح المستقبل. فمن الممكن أن تكون لتلك القضية آثار سلبية بصورة كبيرة على العلاقات المستقبلية في دولة البلقان". يقول نيرما جيلاسيك, محقق بحقوق الإنسان في سراييفو: إنه في هذا الإقليم المنقسم على نفسه بسبب تلك الذكريات والتفسيرات المتناقضة لما حدث أثناء الحرب, فإن "هذه القضية تتعلق بتحديد طبيعة هذه الحرب, سواء كانت عدوانًا أم حربًا أهلية". وقد قضت بالفعل محكمة الجزاء الدولية بجمهورية يوغسلافيا سابقًا, والتي يحاكم بها سلوبودان ميلوسيفيتش, بحدوث جرائم إبادة جماعية بالبوسنة. ويقول السيد ديكو: إنه على الرغم من أن محكمة العدل الدولية ليست ملزمة بالأخذ بهذا القرار المسبق, "إلا أنه سوف يكون أمرًا مزعجًا, وسيؤدي إلى حدوث اضطراب في وحدة وتماسك العدالة الدولية" إذا ما قضت محكمة العدل الدولية بخلاف هذا. ومع ذلك لن يكون من السهل بالنسبة للجانب البوسني أن يثبت مسئولية الحكومة اليوغسلافية عن جرائم الحرب التي قامت القوات المفوضة منها بارتكابها. ويواجه المدعون العموميون بمحكمة الجزاء الدولية صعوبة في إثبات كل الصلات في السلاسل المزعومة من الأوامر المنتقلة بين ساحات المعارك وبلجراد, كما أن المحاميين البوسنيين في محكمة العدل الدولية لن يكونوا قادرين على استخدام كل الأدلة المقدمة في محكمة الجزاء الدولية, والتي قدمت بلجراد بعضًا منها فقط للمحكمة, شريطة أن لا يتم الكشف عنها للأطراف الثالثة. وسوف تستمر هذه الجلسات حتى التاسع من شهر مايو, حيث سيقوم القضاة بالاعتزال للنظر فيما سمعوه من أقوال, بالإضافة إلى النظر في آلاف الأوراق من الوثائق القانونية. ومن المتوقع أن يستغرق هذا عدة أشهر. وقد تم رفع تلك الدعوى لأول مرة في عام 1993, ولكن تم تأجيلها بسبب الوقائع الإجرائية المتكررة والثورات السياسية في بلجراد. ويتوقع السيد باون أن هذا التأخير الطويل, بدلاً من أن يكون له تأثيره في تخفيف الحكم, سوف يعطي للحكم مزيدًا من القوة. وأضاف باون: "هذا يظهر ما للجرائم من طبيعة لا تتأثر بمضي الوقت, وأن هناك حاجة دائمة لتأدية الحساب, كما تظهر طبيعة القانون الخالدة" نقلا عن كريستيان ساينس مونيتور المصدر : مفكرة الاسلام