من البديهي في الحقيقة القول بأن الجزائر تختلف كثيراً عن مصر، وأن إمكانية استنساخ تجربتها في إجهاض الديمقراطية يختلف جزئياً عن مصر، ولا يتطابق معها إلا في بعض الملامح التي سأحاول التركيز عليها هنا، ولكي أعفي نفسي من تهمة الغرق في توهم قابلية تكرار التاريخ بحذافيره، أرد بأنني قبل ستة أعوام وفي أعقاب عنفوان النصر الجزئي الذي حققه الإخوان في انتخابات 2005 كتبت في الخليج الإماراتية دراسة قصيرة بعنوان "الإخوان.. الحكم والمستقبل.. النموذجان التركي والجزائري.. سراب التطبيق في عالم مغاير"، وما زلت مؤمناً بصعوبة تكرار النموذجين كليهما لاختلاف التعاطي العسكري والفارق الجذري بين الجيش الجزائري في ذلك الحين، والجيش المصري الوطني الذي حقن دماء المصريين، والذي نكن له وافر التقدير على دوره في الحفاظ على جماهير الثورة، والاختلاف الاجتماعي الجذري بين شعوب تلك الدول، والاختناق الاقتصادي الدافع إلى التعامل المتزن مع الحالة المصرية، بيد أن هذا كله لا ينفي أن ثمة تشابهاً لافتاً بين ما يحصل في مصر وما مهد للعشرية السوداء في الجزائر في مشاهد عدة، أمهد لها بهذه الرواية لأحد الضباط الجزائريين في مذكراته التي أشرت إليها في الجزء السابق من هذه السلسلة.. يقول ضابط الاستخبارات: لقد كلفني العقيد إسماعيل العماري ابتداء من 28 ديسمبر أن أقوم بدورة على الأحزاب "الصديقة" وكذلك السلطات الإدارية والقضائية بغاية تقويم الوضعية، وإمكانيات احتمال إلغاء الاقتراع (...) لقد بين لنا رئيس (م.ج.م/DCE) بأن الجنرال توفيق شخصيا، وكذلك اللواء خالد نزار كانا يشاركان في إجراء الاتصال ب "المجتمع المدني" وأنهما كانا يعتزمان تكليف ضباط آخرين من (ق.إ.أ/DRS) بربط الاتصال مع عبد الحق بن حمودة رئيس (إ.ع.ع.ج/UGTA) (نقابة العمال) (النقابة القوية التابعة ل"ج.ت.و/FLN " (الحزب الحاكم الخاسر) والتي تخدم مصالح النظام ومع ممثلي مختلف الجمعيات، والصحافة وكذلك أحزاب سياسية أخرى، وذلك بغاية الاطلاع على الآراء لمعرفة كيفية التعاطي مع الوضع الجديد. إن تعبئة وتجنيد "المجتمع المدني" أصبح ضرورة مطلقة (...) وفي هذه الظروف بدأ العمل على قدم وساق، وانطلقت حملة تسميم لم يسبق لها مثيل، فبأمر من الجنرال توفيق كلف ضباط (ق.إ.أ/DRS) بمن فيهم ضباط مصلحتي (م.ب.ت/SRA) وعملاءهم، بالقيام بنشر وترويج سلسلة من الإشاعات، تدور كلها حول موضوع واحد، وهو أن حزب ال(ج.إ.إ/FIS) سوف يستخدم الديمقراطية للوصول إلى السلطة من أجل إقامة دولة إسلامية، وفرض تطبيق الشريعة الإسلامية! ودعاية أبواقهم الإعلامية كانت تساعد على نشر هذه الإشاعات وسارت بها صُعدا حتى وصلت إلى أن تنسب إلى (ج.إ.إ/FIS) عزمه على إقامة دولة مماثلة لنظام الملالي "الديكتاتوري" في إيران حيث لا توجد للمرأة أية حقوق(...) وقامت الصحافة الفرنكوفونية بتشويه متعمد لأقوال قادة (ج.إ.إ/FIS) (الحزب الفائز) (...) وذلك بهدف إقلاق وتخويف الرأي العام، وإنذاره بالخطر، مدعية أن الإسلاميين عازمون على "طرد النخب المتعلمة بالفرنسية، وتعويضهم بالسودانيين والإيرانيين" كما شوهوا كذلك، وعن قصد، أقوال محمد السعيد، وقولوه ما لم يقل أبدا، وهو "وجوب تهيئ الجزائريين لتغيير طريقة معيشتهم، وتبديل التقاليد المتعلقة بلباسهم وغذائهم..." !!! بعيداً، عن الجهة التي تقوم بهذا الفعل الآن، وما إذا كان جهات خارجية أو مرتبطة بالنظام السابق أو ما خلا ذلك، وهو ما سنحاول أن نرسم ملامحها لاحقاً؛ فإن الأهم التعرف إلى مفردات تلك الخطة الجزائرية إجمالاً، والتي تتجسد في المحاور التالية: المحور الأمني: يتخذ عدة آليات: 1 تلغيم الوضع الأمني وإحداث فوضى تدفع المواطنين إلى طلب مزيد من الأمن الجنائي؛ فيتم تمرير اتخاذ إجراءات تعزز من الأمن السياسي، وتفرض سلطة الأمن عبر فرض أحكام أكثر صرامة تحد من الممارسات الديمقراطية. 2 الإفراج الفوري عن بعض الشخصيات المتهمة بالإرهاب ودفعها لارتكاب أعمال عنف إما بطريقة مباشرة، أو عبر شخصيات تم اختراقها بالفعل. 3 العمل على إحداث انشقاقات واسعة داخل الأحزاب الرئيسية لاسيما الحزب الإسلامي الأقوى (الإنقاذ). 4 استباق الانتخابات بعمليات إرهابية كبرى تستهدف أهدافاً حساسة مثلما حصل في ضرب ثكنة قمار التي رصدها الضابط الجزائري في مذكراته قائلاً: " في آخر نوفمبر نشرت الصحافة أن يوم 29 قامت فرقة "كوماندوس" من الإسلاميين بمهاجمة ثكنة قمار، وهو مركز حراسة حدودي يقع في الجنوب الشرقي من البلاد، أسفر الهجوم عن قتل سبعة عسكريين من شبان الخدمة الوطنية. في الحين ألصقت العملية ب(ج.إ.إ/FIS) وأدينت بالإجماع من الصحافة ومن الأحزاب السياسية، ومن (ج.إ.إ/FIS) نفسها التي قد تحدى رئيسها عبد القادر حشاني يومها في حديث متلفز الجنرال نزار أن يأتي بأي دليل يثبت تورط حزبه في هذه القضية! وبالفعل لم يقدم أي دليل، ولن يقدم على الإطلاق وذلك لسبب بسيط يعود لأن هذه العملية كانت مخططة من طرف (ق.إ.أ/DRS) التي استخدمت الإسلاميين المخترقين والموجهين الخاضعين لمقتضيات تطبيق "خطة نزار" التي وضعها في ديسمبر 1990، والتي كانت تستهدف بهذه العملية توريط ال(ج.إ.إ/FIS) بصفتها حزبا سياسيا! والذي عرفته حول هذه القضية فيما بعد من طرف أحد الضباط في يوليو 1995، هو أن المؤامرة برمتها رتبت أو دبرت ب(م.ع.ب/CMI) بورڤلة (التابع لل"م.م.أ.ج/DCSA" لكمال عبد الرحمان). وفي الحقيقة كان مقررا لهذه العملية أن تتم في نهاية ديسمبر ما بين دورتي الانتخابات، في حالة ما لو كانت (ج.إ.إ/FIS) على وشك أن تحصل على الأغلبية في البرلمان، وهو ما كان سيمثل مبررا كافيا لتدخل الجيش حينئذ لتوقيف المسار الانتخابي". وسيكون من المناسب بعدها دفع عناصر أمنية لإطلاق لحاها والمشاركة في جهد "تعفين الوضع الأمني".. (هنا الحديث عن قمار وليس الشيخ زويد!) المحور الإعلامي: تقوم الخطة على ما يلي: 1 تقديم شخصيات منشقة أو هامشية "إسلامية" متعاونة مع الأجهزة الأمنية في وسائل الإعلام بادعائها تمثيل هذه التيارات الشعبية. 2 إطلاق حملة إعلامية تخويفية من وصول "الإسلاميين" إلى الحكم، تتلخص فيما يلي: الترويج لفكرة كفر التيارات الدينية بالديمقراطية واستدراج بعض القيادات بقصد أو بدون في البرامج الحوارية والحوارات الصحفية للإدلاء بتصريحات توحي بذلك للاستناد عليها لاحقاً في رفض الممارسة الانتقائية للديمقراطية. التسويق لفكرة أن الأحزاب الإسلامية لا تؤمن بالتعددية السياسية وأنها ستؤسس لدولة "ثيوقراطية" تحكم بالحق الإلهي ولن تسلم الحكم مرة أخرى لأي حزب فائز آخر في أي انتخابات مقبلة. التحذير من هجرة جماعية قادمة للعقول والكفاءات (نحو 3 ملايين جزائري) لفرنسا في حال فاز المتطرفون بالانتخابات (وإرسال رسالة قوية إلى فرنسا بذلك). التنبيه إلى أن علاقة الجزائر بالغرب ستكون بالغة السوء، وأن الغد ينتظر حصاراً عالمياً على الجزائر في حال فاز الإسلاميون. التحذير من الممارسة القهرية الفظة التي ستعامل بها "الحكومة الإسلامية" أفراد الشعب لاسيما النساء اللائي سيفرض عليهن الحجاب عنوة. "التبشير" بحرب أهلية قادمة إن وصل "الإسلاميون" لسدة الحكم هناك. .... 3 اصطياد ثم تضخيم كل تصريح حماسي صادر عن بعض حديثي العهد بالسياسة من "الإسلاميين"، والذي سيكون له دوره في تخويف الشعب من حكمهم القادم. 4 فتح جميع الملفات القديمة للقوى الإسلامية والمتضمنة أخطاء تراجعوا عنها أو تعد من الماضي الذي وقعت فيه تلك الأخطاء ضمن مناخ لم يعد موجوداً، ولم يعد مسموحاً بتكراره من قبل أصحابه على الأقل. 5 التدقيق في تمويل العمل السياسي الإسلامي، وفي مقابل السكوت عن تمويل الأحزاب الفرانكفونية ومنظمات "المجتمع المدني"، (جرى اتهام السعودية بتمويل القوى الإسلامية حينها فيما صمتت الآلة الإعلامية عن أحزاب سعيد سعدي وحسين آيت أحمد وغيرها). المحور السياسي: ومنه ما يلي: 1 أولاً، عمل بالون اختبار يمكن من خلاله تحسس طبيعة حجم الإسلاميين عبر الانتخابات بإجراء أخرى، وقد كان في العام 1990 بإجراء انتخابات محلية غير مؤثرة. 2 تقوم "الأحزاب المجهرية (المصنوعة في مخابر "ق.إ.أ/DRS")" كما يقول الضابط الجزائري بالاعتراض على طريقة الانتخابات المزمعة، وسيكون لها دورها اللاحق في طلب إلغاء الانتخابات بحجة الحفاظ على الديمقراطية لحين تحقق مطلبها، وهو بهذه المناسبة سيكون عبر وجود "المجلس الأعلى للدولة" المكون من شخصيات عسكرية وأخرى مدنية!! 3 المشاركة في تظاهرات ومؤتمرات باسم "أنقذوا الديمقراطية" تجوب أرجاء العاصمة الجزائر لتوقيف المسار الانتخابي واتخاذ قرارات أكثر صرامة إزاء فوز "الإسلاميين"، إلى الحد الذي دفع هذا الضابط إلى التعجب من مزايدة المدنيين على العسكريين في هذا الصدد (تتكون تلك القوى والأحزاب من اتجاهات يسارية وفرانكفونية موالية لفرنسا). 4 عزل الأحزاب الإسلامية وحدها واستبعادها من اجتماعات التحضير للانتخابات، "كمثال اجتماع عين النعجة الذي سبق الانتخابات"، والانفراد بها في إيهامها بضرورة تقديمها ضمانات محددة تفي للجميع بالاطمئنان على السياستين الداخلية والخارجية والحقائب السيادية في الوزارة القادمة لمنحها انطباعاً بأنه بصدد تقديم تنازلات وليس إقصاءً شاملاً من الحياة السياسية. 5 تفصيل الدوائر الانتخابية بحيث تقلص من قيمة معاقل "الإسلاميين" في البرلمان القادم (نموذج جرى تطبيقه أيضاً بالمناسبة في العراق عندما أعطيت الفلوجة المقاومة 3 مقاعد انتخابية في مقابل أكثر من 20 لكربلاء الموالية للاحتلال بينما التمثيل السكاني لا يسمح بذلك بالمرة). 6 محاولة توريط القوى "الإسلامية" في ملفات سياسية خارجية ساخنة، وحشرها في زاوية ضرورة اتخاذها مواقف أحلاها مر، والاستعداد من ثم إلى إدانة موقفها المقبل أو المتريث أيا كان. 7 العمل على ضرب الأحزاب الإسلامية بعضها ببعض، وإحياء الخلافات القديمة، وخلق معارك كلامية ومنهجية وتكتيكية بينها، وتشجيعها على التنافس على المقاعد ذاتها في الانتخابات، وانتقاد برامجها الانتخابية، وتوسيع دائرة التناقضات داخل كل حزب أو قوى منها. وبعد،، هل من تشابه؟ بالتأكيد نلمح تشابهاً لافتاً، وتكراراً مملاً للمسلسل الذي يحصل في مصر، والذي ربما لا يسير في هذا الاتجاه الدموي المريع لأسباب عديدة؛ فالجيش المصري أعلن انحيازه للثورة، ولا يقف موقفاً عدائياً منها، ويشدد مراراً وتكراراً على عدم رغبته في الاستمرار، فيما كان الجزائري متورطاً في رفض الديمقراطية والانقلاب عليها، لكن من المهم أن يقال أن جهة ما، لا أعرفها على وجه التحديد، ربما لها ارتباطات خارجية وثيقة، باتت تفرض أجندتها على الجميع، وتحرك الأحداث باتجاه غير مأمون العواقب، وهي تحاول ببراعة أن تستغل الملفات التقليدية وغير التقليدية في تعفين الوضع وخلق انفلات أمني ليس بالضرورة منسوباً إلى تيار ديني بعينه بعدما بدا أن هذه الأكذوبة في طريقها للانكشاف بفعل الميديا الجديدة التي لم تكن تتوافر في الجزائر قبل عشرين عاماً، لكن بترك "الفوضى الخلاقة" تحصل من تلقاء نفسها أو بدفع من محركين تمكنوا خلال حكم مبارك من إقامة شبكات هائلة من "البلطجية" الذين نحن في الحقيقة نظلمهم بهذه التسمية لأنهم بالفعل قد جاوزوها لتكوين "ميليشيات" حقيقية قادرة على إحداث فوضى كونداليزا رايس المعروفة.. سيقول أعداء الثورة الحقيقيون: 1 المناخ غير متاح لإقامة انتخابات دون تعريض أمن الوطن للخطر. 2 لا يمكننا ضمان أمن الناخبين. 3 لابد من فرض الأحكام العرفية. (كانوا بالأمس يطلبون إلغاء الطوارئ فطلبوا ما هو أعنف!!). 4 لابد من تأجيل الانتخابات. 5 لابد من "تكوين" جمعية تأسيسية هدفها وضع دستور جديد للبلاد في الفترة الانتقالية! فإن اعترضتم فالهدف "وضع أسس دستور جديد" للجمعية التأسيسية بعد الانتخابات (هل طلب البرلمان القادم مساهمتهم؟!). 6 مصر تحتاج رئيس قوي الآن قبل إجراء الانتخابات البرلمانية. 7 لابد من تعديل قانون الأحزاب. 8 لابد من وضع قانون جديد للممارسة السياسية. 9 يجب إعادة النظر في شكل الدوائر الانتخابية. 10 لابد من التوافق على الرئيس الجديد للمرحلة الجديدة "الدقيقة". إنها المؤامرة/الجريمة لإلغاء الانتخابات البرلمانية نعم إلغائها ليس بالضرورة بالتأجيل وحده وإنما ربما بإقامتها عرجاء لا تعبر إلا عن رغبات "الثورة المضادة الحقيقية" وليست تلك التي يخدرنا بها إعلام واشنطن المصري.. فذاك إلغاء موضوعياً لها لا ينفيه إجراءً مقارباً لانتخابات عز.. نذكر في النهاية: كان يرعى جنرال أمريكي يدعى دايتون "تأهيل وتدريب" الأجهزة الأمنية التابعة لعباس ودحلان في غزة، كان ثمة انفلات أمني هائل في القطاع.. في العام 2007 انحلت تلك الأجهزة وأزيحت عن تسميم الوضع.. لم يغب "الأمن" بعدها وإنما غاب "الانفلات"!! [email protected]