لا شك أن مهمة الأم غاية في الصعوبة وهي بحق صانعة الرجال، فكما قال شوقي: الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعباً طيب الأعراق، ويُذكَرُ أن معاوية بن أبي سفيان وهو بعدُ صغير كان يلعب مع أقرانه مرَّ بهم رجلٌ ليس من أهل مكة، فلما رآه أُعجِبَ بمظهره وقال: عندما يكبر هذا الصبي سيصير سيد قومه، وسمعت أم معاوية الثناء فلم يعجبها! وعقبت على قول الرجل: ثكلته أمه إنما أربيه ليسود العرب، وقد كان لها ما أرادت وأكثر. فتحديد الغاية والهدف التربوي من الأهمية بمكانٍ في حياة الأسرة وفي ضمير الطفل، وقيل والعهدة على الراوي عن الدكتور زويل: أن أمه علقت على جدار غرفته لوحةً كتبت فيها" غرفة الدكتور أحمد زويل" وهو بعد لم يكمل دراسته الابتدائية، وكان لهذه اللوحة أكبر الأثر والباعث في حياته ونظرته للمستقبل. ومن نافلة القول يُروى أنَّ الفضل بن زيد رأى مرَّة ابن امرأة من الأعراب، أُعجِبَ بمنظره، فسألها عنه فقالت: "( إذا أتمَّ خمسَ سنوات أسلَمته إلى المؤدِّب فحفِظَ القرآن فتلاه ، وعلمه الشعر فرواه، ورُغِّبَ في مآثر آبائه وأجداده، فلمَّا بلغ الحُلم حملته على أعناق الخيل فتمرَّس وتفرس ولبس السلاح، ومشى بين بيوت الحيِّ وأصغى إلى صوت الصارخ من باب المروءة)"[1]. هذه أعرابية تخطط وتضع الأسس والقواعد حسب التقاليد والأعراف وحاجة المجتمع لتعلم ابنها ، هذه تربية أعرابية من البادية! الآن يتعلَّم ويعرف أسماءَ الفنَّانات ولاعبي الكرة والمصارعين وكل الأخبار غير الحسنة يحفظها عن ظهر قلب، أما المحمول والتخنث والسلبية وغرف الدردشة وتقليد الغير ..فلا تعليق. ومن ثم رأينا من المفيد أن نذكر الأم ببعض التوصيات التي نحسبها مفيدة في تربية الصغار ومنها: أن الطفل منذ نعومة أظفاره يحاول أن يستكشفَ العالم المحيط بهِ، وقد لا يستجيبُ للنصح رغبة في إثبات ذاته، فعلى الأم أن تكرر حديثها مستعينة بالصبر، وبالحبِّ والاحتواء سيتقبل نصائحك ليسعد بنظرات الرضا، وترى الاستشارية النفسية( فيري والاس) أن نقل القواعد السلوكية للطفل بشكل إيجابي سيعزز من قبوله إياها، فبدلا من تعنيفه بجمل مثل: "كن جيدا أو أحسن سلوكك ولا ترمي الكتب" قولي له: "الكتب مكانها الرف". وإذا رفض الطفل جمع ألعابه عقب اللعب فلا حاجة لتوبيخه، فبدلا من أن نقول: "اجمع ألعابك"، قولي: يجب أن تعيد ألعابك مكانها وإلا ستضيع الأجزاء أو تنكسر، وإذا أصر فلا مانع من قولك: هيا نجمعها معاً، وبذلك تتحول المهمة أو الأمر إلى لعبة". فالأصل ألا نصف الطفل بالغباء أو الكسل، ويجب أن نعلق على فعله بعيداً عن شخصه، ونستخدم عبارات محفزة حتى وقت الخطأ، مثلاً" هذا عمل غير مقبول أو غير حسن"، وعندما لا يطيع الطفل النصائح من الأفضل الاستماع إليه فربما هناك ما يؤلمه. وأقول لكلِّ أم يجب أن تكوني قدوة للطفل، ففي حالة تعامله بسوء أدب قولي : أنا غاضبة منك، واضربي المثال حيّاً أمامه مثلا : أنا غاضبة من أختي وسأتحدث إليها لنحلَّ المشكلة. واعلمي أن التهديد المستمر قد يزيد عناد الطفل، والرشوة المستمرة قد يعتاد عليها، فلا تجعلي طفلك يطيعك من أجل هديتك، بل عليه أن يطيعك من باب تعاونه مع الأسرة وحبه لها، أو من منطلق أنه يقوم بما عليه من واجب. والتربية بالحب والاحتواء أكثر إيجابية، قبلية واحتضنيه وامدحي سلوكه بعبارات محببة له مثل" جزاك الله خيرا، بارك الله فيك، ممتاز، أحسنت، عمل رائع". ويمكن أن نضع لوحة وفي كل مرة ينجح فيها توضع له نجمة، وحين يكمل الطفل خمس نجمات له الحق في اختيار لعبة، وذلك لتحفيزه مثلا على حفظ ورده من القرآن، أو بلوغه مرتبة متقدمة بين أقرانه، ويجب أيضا أن نعود الطفل على الألعاب الهادفة والتي تنمي تفكيره، ونحاذر من إدمان أو تعود الطفل على الكرتون أو على لعبة معينة. والطفل هبة من الله ونعمة تستوجب الشكر، ومسئولية سيحاسبنا الله عليها، وكفي بالمرء إثماً أن يضيع من يعول. فالأسرة أب وأم وأولاد، فلابد من أن يذوب الواحد في الجماعة، ويعمل من أجل صلاحها وفلاحها، ونجاح الواحد منها هو نجاح للمجموع والعكس، لذا سألقي بين يدي المتلقي مواقف ربما تسهم في تعظيم دور الأم وتحمل الأب وصلاح الأبناء. - في يوم من الأيام، وبينما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس بين أصحابه إذ تلا عليهم قوله تعالى: "مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ"(الحديد: 11). فإذا بأحد الحاضرين وهو (أبو الدحداح) يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيستقرضنا الله؟ فيجيبه صلى الله عليه وسلم : نعم. فيقول له: لقد أقرضتُ ربي حائطي (بستاني)، هذا البستان كان به من النخل ما يقارب الستمائة نخلة. وانطلق الرجل إلى البستان، وما إن وصل إليه، حتى صاح على زوجته: يا أم الدحداح: هيا بنا نخرج من البستان فقد أقرضته ربي، فقالت المرأة لزوجها : ربح البيع أبا الدحداح ..ربح البيع أبا الدحداح (رواه الطبراني). وهنا نجد دور الأم كمربية وداعمة ومكملة لدور الأب، ومعينة على الطاعة وسبب لدخول الأسرة الجنة، فنجد من تقول لزوجها: اتقِ الله فينا ولا تطعمنا من حرام. والرجل في حاجة إلى مواساة امرأته وتسكينها إياه، في حالات الغضب أو نزول حوادث محزنة، كموت ولدٍ وفقد مال وأشباه ذلك، ولقد ضربت زوجة أبي طلحة رضي الله عنهما أعلى مثال في ذلك: كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "اشتكى ابن لأبي طلحة، قال فمات وأبو طلحة خارج، فلما رأت امرأته أنه قد مات هيأت شيئاً ونحته في جانب من البيت، فلما جاء أبو طلحة قال: كيف الغلام؟ قالت: قد هدأت نفسه، وأرجو أن يكون قد استراح. وظنَّ أبو طلحة أنها صادقة، قال فبات فلما أصبح اغتسل، فلما أراد أن يخرج أعلمته أنه قد مات، فصلى مع النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما كان منهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لعل الله أن يباركَ لكما في ليلتكما)[2]. وصبر الرجل على سوء خلق زوجته أو دمامتها لعمري إنه قربة عظيمة وطاعة نفيسة، قيل لأبي عثمان النيسابوري: ما أرجى عمل عندك؟ قال: كنتُ في صبوتي يجتهد أهلي أن أتزوج فآبى، فجاءتني امرأة فقالت: يا أبا عثمان! أسألك بالله أن تتزوجني، فأحضرت أباها وكان فقيرا فزوجني منها، وفرح بذلك. فلما دخلتْ إليَّ رأيتها عوراء عرجاء مشوهة ! قال: وكانتْ لمحبتها تمنعني من الخروج، فأقعد حفظا لقلبها، ولا أظهر لها من البغض شيئاً، وإني على جمر الغضب من بُغضها، قال: فبقيت هكذا خمس عشرة سنة حتى ماتت، فما من عملي شيء هو أرجى عندي من حفظي لقلبها. الله الله الله!! كم كان هذا الرجل كبير القلب عظيم الطوية !!!من منا يستطيع أن يفعل فعل هذا الرجل؟ من منا لديه صبر هذا الرجل؟من منا يستطيع أن يتعامل مع الله بهذا السمو ؟ فعلاً.. أتذكر بيت شعر يشرح ربما بعض مما نحن بصدده ويفسره: إذا كانت النفوسُ كبارا.....تعبت في مرادها الأجسادُ. يرحمك الله يا أبا عثمان ويغفر لنا الأنا وحب الدنيا. فالصبر على سوء خلق الزوجة أو دمامتها إرضاءً للربِّ، وحفظاً لقوام الأسرة شيمة النفوس الكبيرة، وعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيرا كثيراً. .... والإسلام يعطي الحقَّ للصغير في الكلام إذا أحسنه وكان أهلاً لذلك، فقد دخل على عمر بن عبد العزيز وفد من المدينة يتقدمهم غلامٌ صغيرٌ همَّ بالحديثِ باسمهم شارحاً قضيتهم، فتعجب من فعله عمرُ وقال له: يا بني دع القول لمن هو أسنُّ منك. فرد عليه الغلام: يا أمير المؤمنين المرء بأصغريه (قلبه ولسانه) ولو كان الأمر بالسنِّ لكان في المسلمين من هو أحقُّ بهذا الأمر منك. فَسُرَّ من حديثه وقال له: صدقت صدقت ..عظني يا بني. فوراء هذا الصبي أسرة قامت على تنشئته وتربيته بطريقة تجعله يتصدر المشاهد، ويتفوق ليس على أقرانه.. بل على من هم أسن منه. فيجب العناية بصغارنا رهبة من عقاب الله حين نقصر، ورغبة في ثواب الله حين نبذل الوسع والطاقة. ومن منا لا يتمنى بعد موته ولداً صالحاً يدعو له؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به)[3]. فالعلاقة وطيدة بين الدين والانتماء وتفعيل الحب. وأختم الكلام بهذا الحديث:" أدِّبوا أولادكم على ثلاث خصال: حبِّ نبيِّكم وحبِّ آلِ بيته وتلاوة القرآن فإنَّ حملة القرآن في ظلِّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلا ظلَّه مع أنبيائه وأصفيائه"[4]. نفعنا الله وإياكم بأولادنا في الدنيا والآخرة. اللهم آمين.