بدون شك يمثل اتفاق وزراء الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي الذي أبرم نهاية الأسبوع الماضي في قاعدة جوية سعودية ، يمثل خطوة إيجابية ومهمة للغاية لتصفية النفوس وقطع الطريق على المصطادين في الماء العكر ، في ضوء ما يتعرض له الخليج العربي من تهديدات للنفوذ الإيراني ودوائره في المنطقة ، في العراق والبحرين وشرق السعودية وسوريا ولبنان واليمن ، ثم التحالف الاستراتيجي الجديد الذي بدأ يتشكل بين أبو ظبي وطهران ، في ظل تراخي النفوذ الأمريكي وتردد الإدارة الحالية في سياساتها الخارجية ، الأمر الذي منح قوى إقليمية مثل إيران فرصة لبسط نفوذها وتهديدها المعلن والمبطن لدول المنطقة ، وبالتالي كان الصدع الذي حدث مؤخرا بسحب السفراء من الدوحة مثيرا للقلق بالفعل ، وقد بذلت الكويت جهدا كبيرا في تقريب وجهات النظر بين الأشقاء في الخليج فأثمرت ، وبدت معالمها في القمة العربية الأخيرة في الكويت التي شهدت ذوبانا للجليد بين القيادتين السعودية والقطرية ، ثم اكتملت الجهود باجتماعات وزراء الخارجية والذي صدر عنه بيان يعلن انتهاء الأزمة بين قطر وكل من السعودية والبحرين والإمارات . البيان الذي صدر كان يتصف بالعمومية ووضع القواعد العامة ، بدون أي تفاصيل ، وهو ما جعل أطرافا إعلامية عديدة تفسره تفسيرات متباينة ، وكل جهة كانت تفسر ما دار وفق ما تتمنى أو تريد ، دون أن يكون لهذا التفسير أي مستند من مصادر حقيقية معروفة ، بل إن قناة العربية نشرت تقريرا من هذا النوع اضطرت إلى أن تكتب عنه أنه من "مصدر غير مؤكد" ، أي مشكوك فيه ، وهي سقطة مهنية بدون شك ، لأن الإعلام الجاد لا ينقل عن مصادر يعترف هو نفسه أنها مشكوك فيها ، وانتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي تسريبات وتفسيرات عديدة ، وكان ملاحظا أن الموقف من الإخوان المسلمين والأحوال في مصر هو الذي استقطب هذه التفسيرات ، وبدا أن كثيرين يريدون أن يقحموا قصة الإخوان في هذا الاتفاق ، فالجهات المعادية للإخوان قالت أن الاتفاق انتهى إلى طرد عناصر الإخوان من الدوحة ووقف دعم قطر للجماعة ومنع قناة الجزيرة من التغطية الساخنة لأحداث مصر ووقف انتقادها السلطة القائمة وإبعاد الشيخ يوسف القرضاوي من هناك إلى تونس أو تركيا ، وكلام كثير من هذا القبيل ، واعتبروا أن الاجتماع منح الدوحة "إنذارا" مدته شهران ، إذا لم تنفذ ذلك فإن "عقوبات" أخرى سيتم اتخاذها ، والحقيقة أن كل هذا الكلام لا صلة له بالواقع ، ولا يحترم طبيعة العلاقات بين دول الخليج ، والنفسية الخليجية ذاتها ، التي لا يمكن التعامل معها وفق هذا المنطق عند الخلافات البينية ، كما أنه لو كان الأمر بمثل هذه النتائج والإملاءات الأسطورية ما كانت تحتاج وساطة كويتية دؤوبة وجهودا استمرت أسابيع طويلة لتقريب وجهات النظر بين الأطراف ، وخاصة بين الدوحة والرياض ، ثم إن خطاب أمير قطر في القمة العربية بالكويت قبل وقت قصير كان واضحا في تمسكه بمواقف بلاده تجاه الأزمات المختلفة في مصر وسوريا وليبيا وغيرها من البلدان وهو كلام يستحيل تصور التراجع عنه في أسبوع أو أسبوعين. غير أن أي قراءة هادئة للبيان نفسه الذي صدر عن الاجتماع ونصه ، يوضح لنا على الفور أن وزراء الخارجية توصلوا إلى إطار عام يمنح كل دولة الحق في تحديد سياساتها الخارجية بدون أي تدخل من أي دولة أخرى وعلى الجميع احترام سيادة الدول في هذا الجانب ، وكان النص الحرفي يقول :( تم الاتفاق على تبني الآليات التي تكفل السير في إطار جماعي، ولئلا تؤثر سياسات أي من دول المجلس على مصالح وأمن واستقرار دوله ودون المساس بسيادة أي من دوله) ، ومقتضيات عدم المساس بالسيادة تعني أن كل دولة لها كامل الحق والسيادة في قرارها تجاه الأحداث العالمية والإقليمية ، بشرط أن لا تؤثر هذه السياسات على أمن واستقرار دول الخليج ، وهي اشارة إلى بعض التباينات بين دول الخليج فيما يتصل بمعارضين من هذه الدولة أو تلك يمارسون نشاطا في دولة أخرى ترى تلك الدولة أنه يسيء إليها ويضر بأمنها القومي ، وهو ما أوضحه بند آخر بشكل أوضح : (عدم دعم كل من يعمل على تهديد أمن واستقرار دول المجلس من منظمات أو أفراد سواءً عن طريق العمل الأمني المباشر أو عن طريق محاولة التأثير السياسي، وعدم دعم الإعلام المعادي) ، فالمسألة محصورة في المنظمات والأفراد التي تؤثر أمنيا أو سياسيا على دول المجلس ، فلا صلة لهذا الحديث بأي أبعاد إقليمية أو سياسات رسمية تجاه دول أخرى أو مشكلات دول أخرى ، فلا يتطرق لموقف قطر من مصر مثلا ولا موقف الإمارات من إيران التي اعتبرتها مؤخرا حليفا استراتيجيا لها وأبرمت معها اتفاقيات عديدة ، رغم أنها الخصم الأول للسعودية في المنطقة ، وأضاف بيان وزراء الخارجية قوله : (الالتزام بالمبادئ التي تكفل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس بشكل مباشر أو غير مباشر) ، وهذا النص أوضح ما يكون في احترام كل دولة لشؤون أي دولة أخرى واختياراتها . الخليج هو عمق استراتيجي ومصيري لمصر ، وخاصة في الوقت الراهن ، كما أن مصير النظام الحالي في مصر مرتبط إلى حد كبير بالخليج ، سلبا وإيجابا ، وبالتالي كان من المفهوم أن تنجذب الاهتمامات داخل مصر وخارجها بأي حراك خليجي ، خاصة وأن بعض الدول تدعم النظام الحالي وبعضها الآخر يعارضه ، غير أن كثرة تقاطعات الأزمات الدولية والإقليمية حاليا ، وتباين مواقف دول الخليج تجاه هذه القضايا كلها يجعل من المحال أن تفرض دولة على أخرى موقفا محددا لسياستها الخارجية ، كما تفرض هذه التشابكات على الجميع مرونة أكبر في استيعاب الخلاف ، طالما أن الأمر لا يتصل بمهددات الأمن القومي الداخلي لدول الخليج أو يهدد سيادتها على أراضيها أو قراراتها سواء ، ومن ثم ، أتصور أن هذا الاتفاق أتى لإنهاء الجفوة وتطييب الخواطر بالأساس ، والمؤكد أن غالب ما نشر عن تفاصيل مفترضة لذلك الاتفاق أو الالتزامات العملية تجاهه هو محض خيال أو تعبير عن رغبات قائليها وفق انتماءاتهم أو حساباتهم السياسية المختلفة .