إنتظرنا طويلاً خروج ثوّار اليمن الى ظاهر الحياة، نابشين السماء بحثاً عن الشمس. الجثث استحالت غباراً، وعظاماً جافة. كل هذا الإهتراء وكل هذا الموت تزكم رائحته الإنسانية جمعاء، والرئيس عبد الله صالح يتفرّج على حياة اليمنيين تعوم على سطح مقبرة كبيرة. نسمع صهيل الحناجر تنادي بالحرية، ولا نرى على الشاشة سوى شباب يخرج من ركام ويدخل في ركام. تراب اليمن قاسم بين الأحياء والموتى. الجفاف فصل من فصول حياة اليمنيين، متكلّسة وغبراء. يتفرّج الرئيس على شعبه، يحملون رزم موتاهم، لا أسماء لا بطاقات. كان عليهم تحمّل مشاق هذا الدرب من النحيب، في يمن أكله الظلم وأكل معه الدموع. إنها تنهدات القهر، لكنها أيضاً النهوض من التراب. أفاق اليمني من الكوما التاريخية، ويكون علينا أن نهلل له، نسانده وندعمه، ونرى الى إنتصاره وسعادته. لكن هناك الحاجة لتعّلم عبّ الهواء من جديد. حاجة لرفع شعارات الحرية ونبذ الطاغية والإستبداد. حاجة اليمنيين ليعودوا ناساً احراراً وليعودوا أرواحا نضرة. الثوار اليمنيون الآن الى أين؟. إنهم يرسمون ليمن جديد، يمن يخرج الى العالم والحياة، يرسمون لرحلة الكرامة لو كلّفت أكفاناً. الرئيس يتفرّج على قيامتهم ولا يصدّقها. يراها بأمّ عينه تنمو وتتصاعد ويُكذّب تلك العين. يخطب فيهم خطابه المذهول، المتعثّر في ذهوله وفي إعتذاره الباكي، وفي طقوس المناورة الخبيثة. لكنها القيامة ايها الرئيس. القيامة من موت مُعلن ومن إختفاء، ومن صمت، ومن رضوخ. اليمن كلّها على موعد مع قيامتها رغم أنفك أيها الرئيس! والشباب يترسّمون في مسيراتهم رحلة الحرية، وهي واحدة ونهائية ولا رجعة عنها. قيامة عجائبية بدأت وتستمر ولها في كل الأحيان شعار واحد فقط . إنها الكرامة ثانية، وهي ككل الكرامات صافية لا شائبة فيها. لشعب اليمن حياته وخلافاته، قبائل وعشائر وأفخاذ كأغلب الشعوب العربية، لكن حب الحرية فاتحة، لغسل قهر وشكوك ونبذ وظلم وسجون، وعقلية متعفنة وسادية وأمراض مخزية كثيرة في رأس الطاغية. لا تصّح الثورة بالطبع كحل علاجي أكيد، لكن حبّ الحرية سوف يفعل الكثير، وسوف يُرخي أثقالأ وقيوداً، ما كانت زحزحتها من قبل، ممكنة. ليست الثورات بالطبع قاعدة، لكنها تدّل على الطبيعة الإنسانية في إيمانها بالحرية. الأرجح أن ما فعله علي عبد الله صالح بشعبه هو ما يفعله القذافي، وما سبق لزين الدين بن علي وحسني مبارك أن فعلاه. فمن أجل أن لا يبقى سوى الرئيس كان من اللازم تصغير ليبيا ومصر وتونس واليمن، ولو باختصارهم ووضع أهليهم في المقابر والسجون، وتجميد بعضهم أحياء، أو شبه أحياء من الفقر والذل. حصل هذا في كل البلاد العربية بالمعنى الحرفي والعددي والكمّي. فمع ملايين القتلى وملايين السجناء والمنفيين خارج بلدانهم، حكم أولئك الحكّام شعوباً متشرذمة، وبلداناً صغيرة على مقاساتهم وأصغر من أن لا تطالها ايديهم. الأرجح ايضاً ان فكرة الحرية، حرية الشعوب،هي الأبقى، ولا شيء يدانيها مهما عظم. ثم أن هذه الشعوب، يمنية ومصرية وليبية وتونسية.. شعوب عربية بالكامل، وقد شقّ لها البوعزيزي لفح النار بجسده الطري، تجد رهبة بعد اليوم في حياة من دون حرية. في حياة لاسبيل فيها الى الطاغي والمستبّد والفاسد وخائن شعبه، ولامجال فيها لما هو دون إنساني، ويدُرج في المظالم، والسقط ، والقسوة والتعسف. إنها حرية الشعوب أخيراً، درباً ومرتجى مهما بلغت التضحيات. كوّة نور اندلق. حرية لا شفاء منها، تدحرجت فكرتها ككرة ثلج، ونشكر للإستبداد الذي اقترحها، وللعسف الذي أنضجها، وللذّل الذي فجرّها شرارات من لهب تحرق من يعاندها. لاعجب اليوم أمام مشهد طويل يمور بفيئها، وشعوب تنادي بحياة كريمة، حياة لا ينبغي بعد أن نهدر منها لحظة واحدة غير حرّة وكريمة. العنف. نعم العنف أساساً مورس على حياة اليمنيين، وبعنف نبّي طاهر مضاد، خرجوا الى شوارعهم وهتفوا أعلى هتاف، وقد دفعوا ثمنه دماً وأرواحاً بريئة. نقول، ليس الدم المراق أهمّ من الحرية، بل مفض اليها وسبب. الدم ليس الموت، وليس دائماً غياباً أو رحيلاً وليس بالضرورة من دون ثمن، إنه دائماً تسامٍ وإشراق. السؤال المطروح دائماً من المتشككين على الثوريين يتعلق بمعجزة الإنتصار يحسبها كثيرون مستحيلة، مريبة أو ملغومة.لماذا يماطل علي عبد الله صالح؟ لماذا لم يتنحَ بعد؟ لماذا لم يفعل القذافي؟ لماذا لايفعل أشباههما. الجواب الجاهز والسهل بالنسبة اليهم: الإنتقال السلس للسلطة في الفكرة العاهرة عن مماطلة مفضوحة. الإنتقال السلس للسلطة وكأنهم بذلك يقلبون الطاولة على من يحسبونهم يحرجونهم ،الإنتقال السلس للسلطة بسلاسة تلّوي هذه الافاعي التي لم تعتد في عقود حكمها الطويلة على شعوب معارضة أو منشّقة. إذ لم يكن هؤلاء الطغاة ولا رجالاتهم يعطون معارضيهم فرصة الإمتعاض حتى. من عارض أو من اشتبه بأمره كان يختفي فجأة. الإمحاء هو الذي ينتظر المعارض لا السجن. وبالطبع الكتابة المعارضة لم تكن خياراً ممكناً، بل كانت أسوأ بالنسبة لهم من المعارضة الجسدية لما للكلمة من بطش. من هنا ذهول مبارك والقذافي وبن علي وصالح، من هنا حيرتهم ومفاجآت أعمارهم. عنايه جابر القدس العربي