بعد الثورات عادة ما تحدث بعض الأخطاء ، وذلك شئ طبيعي لأن الناس كانوا كالمسجون الذى لا يرى نور النهار ولا يدرى أين مكان سجنه، فإذا به يخرج فجأة إلى الحياة يرى شمس الأصيل ويتنسم عبير الحرية بعد غياب طويل . • من الطبيعي في هذه الحالة أن تتعثر خطاه وأن تزل قدمه وأن تضيع منه لبعض الوقت بوصلة التوجيه ومعالم الطريق ، ومن ثم فالتجاوزات التى تتم عبر الحوارات على صفحات الجرائد وفي الفضائيات يمكن مع حسن الظن أن تحمل على هذا الوجه، وأن نتأول لها هذا التأويل الذى يعفي أصحابها من الوقوع تحت طائلة القانون الذى تنص بنوده على عقوبة السجن لمن يتعرض للآخرين بتشويه السمعة أو النيل من المروءة أو إشاعة الفوضى حول شخص بعينه، أو جماعة بذاتها بالتحريض عليها وتعريض حياة المنتسبين إليها لخطر محقق أو حتى لخطر محتمل . • لكن عين الباحث المتابع لاتخطئ التقدير أن الحملة التى يتعرض لها التيار السلفي الآن في مصر ليست تمهيدا لعملية إقصاء تيار بعينه أو حتى محاولة للنيل من رؤوسه ورموزه، وإنما تجاوزت هذا البعد لتتناول الإسلام ذاته بالتشويه عليه وتخويف جموع الأمة منه وفض الناس من حوله، وذلك بعملية خلط متعمدة بين رموز التيار السلفي وبين الإسلام ذاته، واختصار الإسلام كله في هذا التيار وتقديمه للناس بحسبانه بعبعا سيطفئ أنوار الحياة ويصادر الأفكار ويقتل الإبداع ويلزم رجال مصر بلبس الجلباب كما يلزم نساءها بالنقاب والويل لمن خالف. • ما يتم تسويقه والترويج له في هذه الأيام يحاول جر مصر بفئاتها وتياراتها لمعارك داخلية تستنفد الجهد والطاقة وتجعل عامة الناس يترحمون على أيام الرئيس المخلوع حسنى مبارك. • الحملة الشرسة التى يتعرض لها التيار السلفي تخبرك أن المقصود هو الإسلام وكل ما يمت له بصلة، ولا ينبؤك مثل خبير. • يريدون أن يغرسوا في الناس فزاعة جديدة ليس من الإخوان المسلمين كما كان يفعل النظام السابق فقط ، وإنما من الإسلام ذاته . • لقد اكتشفوا بعد الاستفتاء الأخير أن وجودهم في الشارع المصري مرهون بغياب الإسلاميين كلهم ودون استثناء، فمع وجود الإسلاميين لا حضور لهم ولا تأثير لديهم، ولذلك فهم يحرصون على تشويه الصورة بكل ما يملكون من أدوات الدس والتدليس والكذب. • ومن ثم يستبعد أن يحمل ما يحدث على محمل حسن أو أن نتأول له أنه رد فعل طبيعي لحالة الحرمان الطويلة التى عاشها الشعب المصري وعانى فيها كثيرا حيث حرم من حقه الطبيعي في التعبير عن نفسه بحرية. • هنالك كلام يشاع عن تطبيق حدود وقطع أذان وهدم أضرحة وتهديد بخطف النساء السافرات من الشوارع وتشويه وجوههن بمياه النار . • هم يريدون أن يتساءل الناس ما ذا سيكون عليه الحال إذا آلت أمور مصر في الحلال والحرام وما يجوز وما لا يجوز إلى هؤلاء الناس ؟ • إن الحياة ستتحول إلى سجن وسجان ، السجن هو مصر بكل شوارعها وميادينها. • والسجان هم هؤلاء الإسلاميون المتطرفون المتعصبون . • والسجين هو هذا الشعب العادى المسكين . هكذا يريدون تسويق الفكرة ، ويحاولون جر الإسلاميين جميعا إلى معركة ليسوا أهلا لها ولا هم قادرون عليها . • الإسلاميون ليسوا أهلا لها لأن أدواتها وآلياتها تتسم بالقذارة المطلقة ، وفيها يستعمل الكذب والتدليس والافتراء والتحريض والتخويف واستغلال حاجة الناس إلى الحرية وتهديدهم بمنعها عنهم إذا جاء الإسلاميون وملكوا زمام الأمور ،ولو عن طريق الديموقراطية والانتخابات الحرة. • والإسلاميون ليسوا قادرين عليها لأنها معركة ليست شريفة، وفي المعارك غير الشريفة وعلى المدى القصير يكون الفارس الشريف هو الخاسر ، لأن رجولته وصدقه مع مبادئه تمنعه من استعمال نفس الوسائل والرد بنفس الطرق الخسيسة. • أعرف أن هناك صبية متهورين يملؤهم التعصب في كل تيار ، وأعرف كذلك أنه لايجوز أن نخلط بين الفكرة والأتباع ، وأعرف أيضا أنه من الصعوبة بمكان أن يجرد المرء نفسه من مشاعر الغضب مهما التزم الحياد كباحث حين يرى تيارا يتم اغتياله ظلما، وتشويهه كذبا وافتراء حتى لو كنت مختلفا معه . • الحزب الوطنى وفلوله وبقايا جهاز أمن الدولة وطوائف أخرى تعتبر أن الإسلام والمسلمين هم الخصم اللدود لن يتقبلوا الهزيمة بسهولة. • فلول النظام السابق وبقايا جهاز أمن الدولة، ومعهم جماعات العلمانيين وطوائف أخرى معروفة لايريدون خيرا بمصر. • الحملة الشرسة والسوداء على الإسلام وتياراته وفصائله كانت لها ضحايا وحققت إصابات في أفكار كثير من عوام الناس ، بل إن بعض الخواص من المتعلمين والمثقفين الحياديين أصابهم شئ من الهلع نتيجة الإلحاح في تكريس المفاهيم السلبية لدى الإسلاميين عموما والسلفيين بشكل مخصوص. • التيار السلفي ككل التيارات تتفق معه وتختلف، لكنك لا تملك إلا أن تحترم أصحابه لعفتهم ونظافة أيديهم وبعدهم عن كل ما يخدش المروءة أو يشين السيرة. • قد تلتقى معهم في الأصول وتختلف في أقل القليل من الفروع، لكنك لا تستطيع أن تنكر حضورهم المميز ولا أن تتنكر لدروهم كرافد هام ومؤثر من روافد الدعوة إلى الله . • كنا منذ زمن نعمل في دولة الإمارت وعرفت بعضهم عن قرب، وأختلفت معهم في كثير من الرؤى والطروحات، ولكنى لا أنكر فضلهم وهمتهم، وما رأيت في سيرتهم إلا ما يشهد لهم بالفضل وحسن الأخلاق والأدب . • بعض تصريحات الرموز السلفية والتى تأتى أحيانا بتلقائية غير مفتعلة، تُسْتَغَلُ وتُفَعَّلُ وتُحَمَّل بأكثر مما تحتمل وتُسَوَّقُ على أنها الدليل والحجة للأطراف الأخرى على صدق ما تدعيه. • الأطراف الأخرى غنية وذكية ، ولديها في التشويش والتشويه سوابق وخبرات، ومن ثم فهي تجيد اختراق الصفوف باستئجار بعض العناصر لِتُقْدِمَ على عمل أهوج وهدام، فيكون ثمنه ارتباك في المشهد الوطنى كله ينزع الثقة عن أهلها ويبذر بذور الشك والحذر بين التيار الإسلامي وبين شرائح المجتمع المختلفة والتى توليه ثقتها وتطمئن إليه . • هنالك خسارة من نوع آخر تصيب مصر كلها حيث يستبعد الشرفاء من المشهد كله لَيَحِلَ محلهم مَنْ باع الأرض والزيت وخرَّب البيت ولا يزال متربصا ينتظر إشارة العودة . • كتب إلي من عمق الريف المصرى شاب قريب لى معروف بشرفه وعدالته ووعيه الثقافي وحبه لمصر يرجونى أن اكتب محذرا من السلفيين حتى لا تصاب مصر بانتكاسة الثورة . • اتصلت أيضا هاتفيا من أهل القاهرة قريبة لزوجتى تحمل ماجستيرا في علم الاجتماع وتُعْرَفُ بين معارفها بالتزامها الدينى، وطلبت أن ندعو لمصر وأن يجنبها ربنا فتنة السلفيين وما يفعلونه . • أدركت ساعتها أن الدعاية السوداء والرمادية عبر الحملة البغيضة التى يطلقها الإعلام المتصهين في بلادنا وحتى بعد الثورة، حققت بعض أهدافها وأصابت بعض الشرائح، وأشاعت بين الناس دخانا يحجب رؤية الحقيقة ويزكم الأنوف . أظن أيضا ،وبعض الظن حق أن مصر الثورة مقبلة على مؤامرة من نوع خطير، فمصانع الكذب فيها فاقت نظراءها لدى عصابات شيكاغو وجماعات هوليود. • تساءلت في نفسى، أمام هذه التحديات كلها هل تدرك التيارات الإسلامية حجم الخطر الذى تتعرض له وتُعَرِّضَ له مصر ؟ • أم أن أولوياتنا ستظل يعبث بها بعض الصبية الصغار في تلك التيارات وبعض المستأجرين من خارجها ؟ • الموقف يحتاج لبصيرة الحكماء ونحمد الله أنهم كثر في التيارات الإسلامية. • بعض الطوائف هنا في مجتمع المهجر ممن حققوا حضورا اقتصاديا هائلا ونجاحا إعلاميا مسيطرا لو مررت عليهم بيتا بيتا أو زنقة زنقة كما قال غير المأسوف عليه أو حتى فردا فردا لن يدخل واحد منهم أبدا معك في حوار ينشر أو يذاع ، وإنما سيحيلك لرجل واحد عندهم محدد ومعروف: إذهب إلى فلان ، فلان هو المخول بالحديث والتصريحات ، رغم أنك قد تحسبهم جميعا، بينما قلوبهم شتى . • فهل نستفيد من خبرات الآخرين ولو كانوا مختلفين معنا ومختلفين عنا ؟ أكاديمى مغترب رئيس المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية رئيس إذاعة القرآن الكريم في أستراليا