ما فعلته المؤسسة العسكرية بالوقوف إلى جانب ثورة يناير 2011، والإشارة إلى ذلك فى بيانها العسكرى الأول، حيث كان غير المأسوف عليه ما زال ممسكا بمقاليد السلطة، وهو القائد الأعلى للمجلس، يستحيل أن ينساه أحد. وعلى الرغم من أن المفروض ألا فضل لطرف على آخر، إلا أن الشىء بالشىء يذكر، حيث لاحظ كثيرون أن ما فعله الجيش مع ثورة يناير هو رد لدين فى عنقه تجاه جموع الشعب المصرى، حيث انتفضت فى يوليو 1952 تحتضن ثورة الجيش، و من ثم فالثورتان أكدتا حقيقة تاريخية واجتماعية، ألا وهى: تلاحم مؤكد بين الجيش وشعبه، أو بين الشعب وجيشه. تلك مقدمة لابد منها، حتى لا يتصور أحد فى مجلسنا الموقر أننا ننكر ذلك، أو نسنياه، كل ما هنالك أمران: 1- أن من يتولى المسئولية العامة، إذ تكون مصالح عشرات الملايين معلقة فى رقبته، لابد أن يكون مستعدا لأن يسمع ويقرأ نقدا لما يفعل وما يقول، خاصة ونحن نملك مقولة شهيرة تعبر عن حقيقة أزلية، ألا وهى " جل من لا يسهو ". 2- أن النقد الذى يوجهه المحكوم للحاكم ليس معناه تقليلا من قيمة الحاكم، وإلا وقعنا فى مقولة خطيرة، تشيع بقوة فى النظم الاستبدادية، وهى أن الشعب ناكر للجميل، أو أنه لم يصل إلى درجة النضج بعد بحيث يمكنه أن يُقَدر الأمور تقديرا سليما. أكدت على هذين الأمرين، لأننى شعرت بقدر غير قليل من عدم الرضى، عندما حدثت مداخلة بين اللواء شاهين، وضيوف برنامج يسرى فودة، حيث وضح الانفعال الشديد فى حديث اللواء، إلى درجة أنه كاد أن يدخل تحت طائلة " المعايرة " ، فيُذَكرنا بما فعل جيش القذافى وغيره فى شعوبهم ، على عكس ما فعل جيش مصر، حيث تذكرت على الفور قول المولى عز وجل مرتين، مرة فى سورة الأعراف فى قوله تعالى(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ... (264)) ، وفى سورة المدثر فى قوله (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6))، وأننا لا نقدر الجهد العظيم الذى تقوم به المؤسسة العسكرية. إننا نعلم علم اليقين أن طبيعة تفكير الشخصية العسكرية، تختلف عن طبيعة تفكير الشخصية المعتادة لدى الجمهرة الكبرى من الناس، حيث تفرض ظروف التنشئة والعمل على العسكرى أن يمعن التفكير طويلا، وأن يدرس مختلف الاحتمالات، كما يميل إلى التأنى، والبعد عن العجلة..وهكذا..أقول هذا وأنا لست عسكريا، لكن الظروف كانت قد أتاحت لى عام 1972 على وجه التقريب أن أُدَرِّس موضوع " الشخصية العسكرية" لطلاب الفنية العسكرية. لكن الأمر يختلف عندما تعرض الظروف للعسكرى أن يتولى مقاليد الحكم، وهو أيضا ما كتبت عنه من قبل، منذ عدة سنوات، ناقدا الرئيس غير المأسوف عليه، فيما عُرف عنه من رغبة محمومة فى ألا يتوقع أحد ما سوف يصدره من قرارات، إلى الدرجة التى كانت تدفعه أحيانا إلى أن يفعل عكس ما كان ينوى بالفعل أن يفعله، لا لشىء ، إلا وقوعا فى هذه الخصلة المعيبة، وقلت أن هذا أمر يكون محمودا لدى العسكرى الذى يخوض حربا، لكنه عندما يدير مجتمعا ، فلربما يكون العكس هو الصحيح، وكان عنوان مقالنا ( عندما يُدير العقل العسكرى مجتمعا ). فنحن نلاحظ ما يتردد على ألسنة معظمنا من البطء الشديد فى خطوات المجلس العسكرى، وهو الأمر- نكرر مرة أخرى- الذى ربما يكون مطلوبا فى التفكير العسكرى، لكنه فى إدارة مجتمع، يكون سلوكا غير سليم، خاصة إذا كان هذا المجتمع، يعيش " ثورة شعبية "، ويكتشف أن الوطن كان يعوم على بحر من الفساد فاق كل ما كنا نتصور، حتى إن الإنسان أصبح يتساءل مندهشا: كيف استمرت مصر على قيد الحياة حتى الآن، إلا إذا صحت المقولة المعروفة بأنها بالفعل " مصر المحروسة ". لقد كنا نعيب على غير المأسوف عليه أنه هو أيضا كان يتسم بالبطء الشديد فى اتخاذ القرارات، حتى عندما اندلعت الثورة، ولا نريد أن نسحب الحكم كذلك على المجلس العكسرى، حيث نعلم جميعا أن قرارا قد يكون موفقا عندما يصدر فى لحظة محددة، فإذا مرت هذه اللحظة، واتخذ القرار، ربما يصبح غير ذى جدوى، أو تضعف فاعليته، ويمكن أن نسوق أمثلة متعددة. ولعل القرار الخاص بالقيادت الإعلامية من أبرز الأمثلة..فمن المسلم به ما يلعبه الإعلام فى عصرنا هذا من دور فى تشكيل عقول الناس واتجاهاتهم، ومن ثم كان من المهم أن يكون التغيير فى مقدمة جدول الأعمال، خاصة وأن عملية التغيير لا تستحق أن يمر عليها ما اقترب من شهرين، بل إن هذا التغيير نفسه، لم يكن فى بعض عناصره مما هو مأمول. وعاشت مصر أياما انقسم فيها الناس إلى معسكرين، يتبادلان الاتهامات، وغرقت الفضائيات وصفحات الصحف فى مناقشات مستفيضة، وصلت إلى حد تجاوز كل الحدود، وذلك بشأن الاستفتاء على التعديلات الدستورية. وكنت من اللذين قالوا " نعم " ، لكننى بعد أن صدر الإعلان الدستورى، تساءلت بينى وبين نفسى: ما كان من الأول؟ بدل أن نبدد طاقة ملايين فى مناقشات ظهر أنها لم تجد ، فضلا عن إنفاق مائتى مليون جنيه، فى وقت كلنا نعرف فيه كيف أن خزانة الدولة توشك أن تفلس! بل يمكن أن نقول أن بعض ما تضمنه الإعلان الدستوى كان صادما، ولعل أبرز مواده، التى أثارت ما يشبه الإجماع من الاستياء هى استمرار النص على نسبة ال 50% لما يسمى : عمال وفلاحين، وكم أعجبنى قول الدكتور حسام عيسى أستاذ القانون الكبير، فى البرنامج المشار إليه أعلاه، أنه ناصرى حتى النخاع، ومع ذلك فإنه يرى هذ المبدأ كانت له دواعيه فى عهد ثورة يوليو، لكن هذه الدواعى لم تعد موجودة، ومع ذلك ، يعلق اللواء شاهين، بأنهم أبقوا على هذا احتفاظا بإنجاز لثورة يوليو..هل هذا كلام؟ ويقال بعد أن أثبتت التجربة أن لا فلاحين ولا عمال استفادوا من هذا فى أية انتخابات، وأن المبدأ كان بابا دخل منه – مثلا – لواءات شرطة باعتبارهم فلاحين! إن من يترشح الآن يحتاج إلى إنفاق مئات الألوف من الجنيهات، فهل هناك " فلاح " أو "عامل"- بحق وحقيق يمكن أز ينفق مثل هذا؟ والأمر نفسه بالنسبة لمجلس الشورى، الذى يكلف الدولة عشرات الملايين، بلا طائل، فى الوقت الذى توجد فيه بيوت خبرة رائعة ، لا تجد أحيانا إلا الملاليم، وأبرزها المجالس القومية المتخصصة، والتى احترقت، ودمرت مئات، وربما ألاف، من تقاريرها التى أعدها مئات من خيرة عقول مصر، عبر ما يقرب من أربعين عاما. حتى ما يتصل بإنشاء الأحزاب، أصابنا أيضا بقدر من الإحباط، إذ نسى الذى وضع شرط الإعلان فى صحفتين يوميتين، ونشر أسماء خمسة آلاف عضو منضم، أن الصفحة الواحدة تتكلف الآن عشرات الآلاف، فكأن إنشاء حزب جديد يتطلب مئات الألوف من الجنيهات، مما لن يستطيعه الثوريون ،والشرائح الجديدة، بل يستطيعه غالبا، أصحاب رؤوس الأموال، وهذا فى حد ذاته ربما يفتح الباب لفساد من نوع جديد. بل كنا نود أن يطبق هذا على الأحزاب القائمة الآن، حيث أننا جميعا نعلم أن معظمها هى أحزاب ظهر عن طريق أمن الدولة، إذا استثنينا الأحزاب الأربعة المعروفة( الوفد-التجمع- الناصرى- الجبهة)، فمثل هذه الشروط ربما تعرى زيف بقية الأحزاب التى درج الناس على تسميتها " بالكرتونية" ، بينما الصحيح أنها أحزاب " أمنية ". وربما ما يتوج هذا كله، أن رؤوس الأفاعى الكبيرة ما زالت تمرح فى مصر..إن صفوت الشريف، وزكريا عزمى، كانا مؤسستين لبث الفساد فى مصر، خاصة وأنهما كان مع مبارك منذ سنواته الأولى..فقط منذ يومين يصدر قرار بمنعمها من السفر، أبشر بطول سلامة يا مربع شهران مرا، ولابد أنهما عملا الكثير طوال هذه الفترة لتهريب وتسريب ما نهباه. وقبل هذا وذاك: رأس الأفعى الأكبر..مبارك نفسه، وزوجته وابناه وخاصة جمال، الذى أصبح الجميع يعلم علم اليقين أن الفساد زاد معدله، إلى أضعاف أضعاف ما كان منذ أن بدأ يظهر على مسرح الأحداث..بقاء هذه العائلة حتى الآن، لابد أن يبث الأمل فى قلوب المنتفعين، أو على الأقل، الرغبة المحمومة فى التخريب والتدمير والإفساد، والتخطيط لها والإيعاز.. أيها المجلس العسكرى : لا تقطعن ذنب الأفعى وترسله إن كنت شهما فاتبع رأسه الذنب ونحن نثق فى شهامة رجالك!