أدعو شركاءَ الوطنِ ، أن يدركوا أننا جميعاً - أبناءَ مصر - نمضى في قاربٍ واحدٍ ، نرجو له أن يرسو على شاطئٍ النجاةٍ ، ولن يكون لنا حساباتٌ شخصيةٍ نصفيّها ، أو صراعات مرحليةٍ نمضى وراءها ، فنحنُ نريدُ الوطنَ لكل أبنائِهِ ، دونَ إقصاءٍ أو استثناءٍ أو تفرقةٍ ، نَمُدُّ أيديِنا للجميعِ في الداخلِ وفى الخارجِ ، معلنين أنّ أي مصريٍ أو مصريةِ لم تتمُ إدانته بالقانونِ الذى نخضعُ لهُ جميعاً ، هو شريكٌ فاعلٌ في المستقبلِ بغيرِ حدودٍ أو قيود . كانت هذه هي العبارة التي وردت في كلمة السيسي وهو يعلن تقدمه للترشح لرئاسة الجمهورية ، وهي الكلمة التي فتحت الباب أمام تكهنات عديدة حول نوايا السيسي لعقد مصالحة وطنية شاملة تعيد التيار الإسلامي ، بشكل خاص ، إلى قلب الحراك السياسي السلمي من خلال أدوات الدولة ومؤسساتها الدستورية ، كما أنها إشارة تشمل شباب الثورة المحبط من الإحساس المتزايد بسرقة ثورته وتحول مصر إلى دولة أمنية قمعية بامتياز ، إشارة السيسي كانت واضحة ، فهو يمد يديه إلى الجميع دون استثناء أو إقصاء أو تفرقة ، والجميع شركاء فاعلون في المستقبل بغير حدود أو قيود ، والاستثناء الوحيد من تتم إدانته بالقانون ، حسب قوله ، والحقيقة أن هذه الإشارة هي أهم ما ورد في كلمة السيسي ، لأن كل ما عداها تحذيرات من صعوبات الوضع الأمني والاقتصادي والسياسي وغيره وأمنيات بأن الأمور ستنفرج إذا تم انتخابه وأنه يتعهد ببذل كل الجهد بكل الإخلاص ، هذا كلام لا يسمن ولا يغني من جوع في تلك اللحظة الفارقة من عمر الوطن ، فالسيسي يعرف أن المعضلة الأساسية تأتي من ثلاثة منابع : نزاع حول الشرعية ، وانقسام وطني عنيف حوله هو شخصيا وإدراك قوى ثورة يناير بأنها سرقت وأهدافها دفنت بالمدرعات والبارود وقنابل الغاز وزنازين السجون ، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية ، والمحصلة أن هناك عصا شعبية وضعت في عجلة الوطن كلها ، ولن تتحرك إلا إذا رفعت هذه العصا ، ولن تتمكن من رفع هذه العصا إلا إذا نجحت في حل المعضلات الثلاثة بمنتهى الحكمة والشفافية : الشرعية والانقسام وتحقيق أهداف ثورة يناير ، والسيسي يعرف أكثر من غيره أن هذا هو الشرط الأول وربما الوحيد لنجاحه أو تمكينه من قيادة الدولة المصرية ، وهو شرط ليس مستحيلا ، بل ممكنا جدا وبتحقيقه السهل يمكن أن يكون نجاحه وإنقاذ الوطن أقرب مما كنا نتصور ، ولكن أيضا يمكن أن يصبح الحل أبعد مما حلمنا ، كيف ؟ . في كلمته ، وقبل الإشارة لرغبته في المصالحة يقول ما نصه : "السنوات الأخيرة من عمر الوطن بتأكد أنّه لا أحدٌ يستطيع أنْ يُصبحَ رئيساً لهذهِ البلادِ دونَ إرادةِ الشعبِ وتأييدهِ ... لا يمكنُ على الإطلاقِ" ، والمقصود بأن يصبح رئيسا ليس الجانب الإجرائي وصناعة الانتخابات ، فتلك لها آلية في ظل الظروف الحالية يمكن تمريرها بسهولة ، وأدوات الدولة كلها طوع إرادتك ، ولكن المقصد حتما أن يمارس سلطاته الحقيقية كرئيس للدولة ، أن يحكم ، لا يمكن على الإطلاق كما قال بدون إرادة شعبية مؤيدة ، وهذه الإرادة مستحيلة في ظل الانقسام الشعبي الحاد والعنيف والدموي حاليا والمعارضة المتزايدة لقوى الثورة وشبابها ، وبالتالي فالسيسي يعترف ضمنيا ، أنه لن يكون رئيس حقيقيا للدولة إلا إذا تم إنقاذ الوطن من هذا الانقسام ومن نزيف الدم الذي يمكن أن يتفجر بصورة أكثر وحشية لا سمح الله ولدينا العظات فيما حولنا ، ولكن هذه الخطوة التي تبدو سهلة وبسيطة وممكنة جدا وقريبة جدا ، تحتاج إلى حزمة مواقف وإجراءات شجاعة وحاسمة وصادقة مع النفس ومع الوطن ، وهذه الحزمة ستطال بنية الدولة "المهترئة" على حد وصف السيسي في كلمته ، والاضطراب الواسع في منظومة العدالة ومنظومة الأمن بشكل أساس ، فهل هو مستعد لدفع الثمن وإجبار تلك الأدوات على دفع الثمن ، وهل هو مستعد لمواجهة لا تقل صعوبة وخطورة مع تلك الأدوات لتصحيح المسار ، ثم هل يمكن للسيسي أن يقنع المؤسسة العسكرية وأذرعها الأمنية بمثل تلك الخطوات ، خاصة وأنه أصبح بمعزل عن القرار والتوجيه ومثله مثل الفريق سامي عنان حاليا ، أيضا هل يستطيع أن يمرر مثل هذه الحزمة من الإجراءات على من تبقى من حلفائه في 30 يونيو ومنهم الكنيسة وفلول نظام مبارك ، والذين ما زالوا يعيشون أجواء الثأر والإقصاء والأحقاد مع ثورة يناير بشكل عام والتيار الإسلامي بشكل خاص ، هل هؤلاء مستعدون لدعم السيسي إذا أجرى تسوية أمنية وقضائية وسياسية للملفات الحالية وأعاد التيار الإسلامي بأحزابه وجمعياته ومؤسساته إلى مسار المشاركة الكاملة ، هل السيسي مستعد مثلا لسحب القرار الخطير والمتعجل بإعلان جماعة الإخوان جماعة إرهابية ، وبأي مبرر سيسحبه بعد أشهر قليلة من صدوره . طريق الإنقاذ واضح جدا وقريب جدا ، ولكن دونه مخاطر أخرى عديدة ورهانات أخرى سيخوضها على أكثر من صعيد ، ويتوقف نجاحه على اجتيازها ، وعلى مدى شجاعته على اتخاذ القرار فيها ، وهو في كل الأحوال سيدفع ثمنا باهظا ، ولكنه يمكنه أن يدفع ثمنا لإنقاذ وطنه ، ويمكنه أيضا أن يدفع ثمنا للعناد وإرضاء غرور الجنرالات فيغرق في النهاية ويغرق معه الوطن . كيف يفكر السيسي الآن ، لا أحد يعرف على وجه الدقة ، فقد أثبتت تجارب العامين الماضيين أن الرجل شديد الدهاء ، ولا يفضي بدخيلة نفسه حتى لأقرب المقربين ، ويوحي بشيء وهو ينتوي فعل عكسه تماما ، وبالتالي من الصعب أن يحدد المراقب وجهته المقبلة ، لكن المؤكد أنه بعد خروجه من القرار العسكري ، وأصبح كشخصية في العراء المدني ، قلت خياراته عن ذي قبل ، وتقلصت مساحات المناورة أمامه ، وأصبح مصيره في يد غيره أكثر من كونه في يده هو ، وبدون الخوض في تفاصيل حساسة للموازنات الحالية ، فإن المؤكد أن الوضع الجديد يجعل السيسي أحوج ما يكون للمصالحة الوطنية والإجماع الشعبي من أي وقت مضى .