في حوارٍ ساخن مع بعض الشباب المتحمس على صفحتي بالفيس بوك (Face Book)، وبينما كنت أثني عليه وجيله من الشباب الذي فجروا فتيل الثورة؛ استغربت بعض تلميحاته المريبة والمؤلمة؛ التي اتهم فيها جيل الآباء مثلنا وأجيال الأجداد الذين عاصروا هذه الحقب الثورية التقدمية الاشتراكية، التي غزت عالمنا العربي والإسلامي، وصمتوا عليهم وصبروا صبر المغلوب على أمره؛ حتى تحول التقدميون الاشتراكيون إلى دكتاتوريين، وتغول الثوار حتى تحولوا إلى سوبر باشاوات!؟. فحزنت وتألمت واستشعرت نبرة التعالي والعجب منه ومن أقرانه؛ فأحببت أن أذكره ببعض ما قدمه أحرار وثوار الآباء والأجداد، وهو حديث أشعر أنه أقسى ما يكتبه كاتب، وتذكرت معه مقالاً نازفاً سطره أديبنا الرفيع الراحل توفيق الحكيم ذات يوم بجريدة الأهرام، وهو يتألم لكتابته لأنه يدور حول الدفاع عن نفسه؛ليعدد ما قدمه من مؤلفات، ويحصى بعض الجوائز التي نالها؛ ليذكر من بخسوا مكانته، وليرد على البعض الذين اتهموه بالفقر الفكري والأدبي!؟. ومازلت أقاوم شعوراً داخلياً يضغط عليَّ ويعاتبني؛ بأن ما سأكتبه إنما هو كمثل والد يضطره أبناؤه لأن يعدد عليهم أياديه البيضاء، ويجبرونه جبراً على تذكيرهم بواجباته التي قدمها إليهم!؟. فسامح الله هؤلاء الأبناء، وعافاهم من الجحود!؟. وكان الله في عون الآباء؛ فمهما صنعوا فهم مقصرون ومتهمون وأفكارهم منتهية الصلاحية!؟. صانعو الخيام: فمن الظلم أن ننسى أن الأجيال السابقة قد صنعوا هذا الفتيل بأيديهم وصنعوا هذا الوقود من أجسادهم وصنعوا هذا البنزين من دموعهم وعرقهم ودمائهم وقدموا ما صنعوه كأدوات وآليات إلى الشباب ليشعلوا به ثورتهم ضد الطغيان. أو هم الذين مهدوا الأرض وجهزوها ليسير عليها الثوار. وسنشبه ما قام به الأجيال السابقة؛ كمثل ما يقوم به صانعو الخيام؛ أي الطليعة التي تسبق القافلة أو الركبالذي سيأتي من بعدهم بأيام؛ ليكتشفوا أفضل الأماكن، وأكثرها أمناً، وأقربها لعيون الماء؛ لينصبون لهم الخيام ويجهزونها لإقامتهم وراحتهم!. شريحة مصرية ذكية خفية!: ونتأمل أولاً عندما جاء دور التصويت على استفتاء التعديلات الدستورية يوم (19 مارس 2011م)؛ وما صاحبها من جدل وحراك سياسي رائع لم نشهده، حتى انقسم الرأي العام المصري قبله بيوم إلى حزبين عظيمين غير متناحرين ومعتدلين، ومصريين أصيلين؛ وهما حزبي (نعم) و(لا)!؟. وتأملت اتجاهات الريح هل ستسير على ما يهوى هذا الجيل الشبابي؛ الذين قال عنهم الاستاذ فهمي هويدي أنهم (طغاة التحرير الصغار)؛ الذين يمارسون نوعاً من ديكتاتورية الرأي. ووجدتهم يقفون مع حزب (لا)؛ ويقف معهم قوى أخرى دينية لها ثقلها؛ وقد نشرت فيديوهات تحذر من (نعم)، ومن حزب (نعم) ومن مطالبهم المشبوهة، وكذلك قوى سياسية لها ثقلها، ثم دعاة شباب جدد، لهم اتباع وحواريين لا يستهان بهم، وشخصيات لها قامات (ليبرالية) كبيرة نحسبها مؤثرة خاصة في شرائح المثقفين، وبرامج فضائية خاصة ومملوكة وموجهة من معسكر (لا)، ثم صحف خاصة مؤثرة؛ حتى كتبت إحداها عنواناً مستفزاً ومعبراً وموجهاً قبل يوم الاستفتاء وهو (الإخوان والوطني مع نعم والمثقفين مع لا)!؟. ثم جاءت النتائج على عكس ما أراد الشباب، ومن ساند اختيارهم؛ وكانت النسبة (77%) مع (نعم)!؟. فكانت رداً بليغاً وعملياً؛ لينتبه الجميع إلى هؤلاء المؤثرين المظلومين وقد يكونوا من المتهمين!؟. فمن هم صانعو الخيام الشرفاء؟!: إنهم الذين كانت أعمالهم تمثل إرهاصات ما قبل انفجار بركان الثورة!. وهم الذين أثروا في نتيجة الاستفتاء وسيؤثروا في أي نتيجة مستقبلية؛ طالما وجدوا المناخ الحر السياسي؛ وهو المفتاح الرئيس لتشكيل الحراك الاجتماعي والفكري في أي مجتمع. إنهم ببساطة كل من رابط على ثغرته الخاصة؛ فحرسها لعقود كريهة وكئيبة، ولم يقتحمها أي دخيل من منظومة الفساد والطغيان والتزوير والنهب؛ فلا يجب أن نزايد عليهم، ولا ينبغي أن نبخسهم جهدهم. إنهم صانعو خيام مصر الطيبة الأصيلة الكبيرة؛ الذين يصنعون ويشكلون قوة مصر الناعمة الأدبية غير الخشنة وغير العسكرية؛ وهي القوة الحقيقية لمصر؛ التي تحفظ داخلها من عوامل الفساد والتحلل، وتحفظ خارجها من الذوبان في ثقافات وقوى خارجية؛ بل وتؤثر وتقود وتبهر وتصنع تاريخها وتاريخ الآخرين؛ فمنهم: 1-كل مواطن شريف لم ينزلق وينتمي إلى صفوف حزب السلطة والفساد والنهب والوصولية. 2-كل رمز وطني لم يخدعه بريق مجموعة الموت الوطني، وعصابة الدمار الاجتماعي؛ وهم لجنة السياسات؛ فلم ينضم إليهم ولم يشاركهم نهب ثروات ومناصب مصر المحروسة. 3-كل إعلامي شريف لم يسيل لعابه أمام إغراءات السلطة والثورة؛ فرفض أن يكون بوقاً لتزيين النظام وتزويق الطاغية وتلميع ابن الطاغية. 4-كل صاحب فكر شريف لم تشتريه آلة النظام الإعلامية الجبارة؛ فرفض أن يكون منبراً لتجميل فساد النظام ولتبرير جرائم منظومة التوريث الملعونة. 5-كل صاحب قلم نزيه؛ لم يجرفه طوفان منابر رجال الأعمال؛ الذين تغولوا في البلاد فأفسدوا فيها العباد؛ فلم يرض بأن يسترزق من موائدهم الفارهة، ولم تطمعه قصورهم الفارهة، ولم يلهث وراء شاليهاتهم الملكية، ولو بمجرد الحصول على عمود حقير في صحفهم، أو زاوية لعينة في إعلامهم. 6-كل صاحب مبدأ راقٍ؛ ثبت عليه وصبر على ثمنه؛ فلم يرهبه سيف المؤسسة الأمنية المتوحشة، ولم تركعه الرغبة في ذهب المناصب الرفيعة والثروات الحرام ذات البريق الشيطاني. 7-كل رجل أعمال شريف؛ جمع ثروته بالحلال ولم يظلم مرؤوسيه ولم يبخس أجور موظفيه، ولم يطمع في أملاك بلده، ولم يتوحش على حساب أموال أبناء وطنه، ولم يلجأ للطرق الخلفية الملتوية لتنمية ثروته، ولم يتعامل من تحت ترابيزة الأخلاق والطرق الشرعية. 8-كل رجل عف نفسه عن الحرام؛ فلم يتأثر بهذا الطوفان الزائغ للأبصار حتى وجد من تقترن به في الحلال، ورضيت هي بما لديه، ولم ترهقه بالمطالب القاصمة لظهور الرجال. 9-كل أب طيب صبر على تربية أبنائه على الحلال؛ رغم الظروف المعيشية المرهقة، ورغم خوفه على مستقبل أبنائه؛ فلم تمتد يده إلى رشوة، ولم يطمع فيما تحت يده من عهده. 10-كل أم طيبة؛ وقفت خلف زوجها فحفظته في ماله وولده وبيته؛ ووقفت بجانبه، ورعت بيتها، واهتمت بأبنائها وربتهم على طاعة الله وحب مصر، وحب فعل الخير، وسهرت على رعايتهم ودراستهم؛ فعاشت عمرها من أجل هدف عظيم تعرفه، وتعيش من أجله؛ وهو إثبات ذاتها، وإسعاد زوجها، وأنتاج جيل طاهر نقي يرضي ربه، ثم يثبت ذاته، ويبر والديه ويعلو بأمته. 11-كل رجل شرطة شريف؛ وجد أن قوة السلطة في يده، لا تبرر له ظلم إخوانه المصريين البسطاء وأصحاب المظالم، وتذكر قوة الله عز وجل عليه؛ فاستخدم سلطته لنصرة المظلوم والرحمة بالمعدوم وحماية الخائف المحروم، ولم يطارد الناس ويتساقط الزلات، ولا يأخذ بالشبهات، ولا يحول دوره من حفظ الأمن إلى ترويع المواطنين وهتك أعراض المواطنات، ولا يجعل التعذيب وسيلة لجمع المعلومات!. 12-كل رجل مرور نزيه؛ لم تمتد يده لجمع الجبايات للتغاضي عن متجاوزي الإشارات، والتهام ما في جيوب العباد لقضاء الحاجات، ولا ينحني متغاضياً عن أخطاء أبناء الذوات. 13-كل قاضٍ شريف؛ لم يبيع ضميره؛ فينتدب لتلك المحكمة لتبرئة متهماً بعينة، أو ينتدب للجنة انتخابات بعينها لإنجاح مرشح معين مقرب من ذوي النفوذ، أو لإسقاط مرشح مغضوب عليه، أو لتزوير استفتاء يرضي الحاكم ويقمع المحكوم. 14-كل طبيب عفيف؛ يؤدي مهنته باحترام ومهنية؛ فيحترم تخصصه، ويحفظ أسرار مرضاه، ويستر عوراتهم، ولا ينتهز الفرص للتربح السريع على حساب أمراضهم وابتلاءاتهم، فيكون ابتلاءً فوق الابتلاء. 15-كل بائع وتاجر صدوق؛ لا يحتكر سلعة، ولا يغش بضاعة، ولا يتاجر بأقوات المحتاجين. 16-كل مشتر صالح؛ لا يساوم، ولا يتجاوز طابوراً، ولا يغش بائعاً، ولا يسرق تاجراً أو محاسباً. 17-كل القوى الوطنية الجماهيرية والشعبية المخلصة؛ التي شكلت تيارات الحراك السياسي المصري، من خارج تلك الحزاب الكرتونية الديكورية؛ فأعلنت خروجها عن سرب النظام الديكتاتوري، وبينت برامجها، وسارت عكس تيار الحزب الحاكم؛ فكشفت عوارت فساده السياسي والاجتماعي والتعليمي والصحي والفكري والزراعي والاقتصادي. ثم واجهت خطة التوريث والتزمت بمواقفها، وصمدت على آرائها، وتحملت ضربات مؤسسته الأمنية الجهنمية، فزجت في السجون، واستشهد رجالها، وتيتم أبناؤها، وحوربت في أرزاقها، وضيق عليها، فحملت الراية وأوصلتها لكم مرفوعة شامخة. ولا نستثني منهم أحداًً؛ مثل الإخوان المسلمين، الإسلاميون بأطيافهم، والجمعية الوطنية للتغيير، وحركة كفاية، وحركة (6) إبريل، ومجموعة خالد سعيد، والمجموعات التي كونها الناشطون على المواقع الألكترونية، والمدونات و... 18-كل الاحتجاجات الشعبية والتظاهرات الفئوية والوقفات النقابية؛ التي أحيت ثقافة الاحتجاج والتظاهر، ورفعت مظالم الشعب، وبثت الشجاعة في نفوس المظلومين، وكشفت ظلم وفساد الحزب الحاكم وأذنابه وسياساته. تلك هي الجهود المتواضعة، وأولئك هم صانعو الخيام الأحرار الأخفياء من رجال مصر البسطاء!؟. فهل كانت الثورة نبتاً شيطانياً، أو زهرة برية بلا بذور وبلا تربة وبلا ماء يرويها وبلا مناخ يهيء الإنبات لها، ثم بلا رجال يرعونها، ويحفظون مكاسبها؟!. فلِمَ ينس هذا الجيل المتحمس فضل من سبقوه؟. ألا يدرون: "إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذوو الفضل"؟. [مسند الشهاب] فلِمَ لا يرفع الشباب شعار التواضع والتقدير لمن سبقهم والتحدي لمن ظلمهم؟: (أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع) E-Mail: [email protected]