أبعد مما حلمت به ، ذلك المشهد الذي عاشته مصر أمس السبت ، كنت واثقا من إقبال الناس على المشاركة وحماستهم لذلك ، ولكن الذي حدث كان أكبر من تصوري ومن خيالي ، هذه الحشود المليونية التي اصطفت في طوابير على امتداد مدن مصر من الإسكندرية إلى أسوان قالت للعالم كله أن مصر ولدت من جديد ، وأن الشعب المصري خرج عن صمته ، وأنه عازم على انتزاع حقوقه وحماية ثورته وأنه لن يتنازل عن حقه في صياغة مستقبله ومستقبل الأجيال المقبلة . كانت الاتصالات تأتيني من أكثر من مدينة ومحافظة تبدي ذهولها مما يحدث ، حتى أن بعض الاتصالات أتتني بعد انتهاء وقت التصويت بنصف ساعة وهي تقول أن الوقت انتهى والطوابير لم تنته أمام اللجان ، والغريب أن هذه الحشود والملايين التي خرجت لم تخرج لانتخاب أحد ولا لاختيار شخص ، وإنما خرجت من أجل "الوطن" بشكل مجرد ، من أجل أن تقول رأيها الحاسم في اختيار صورة الوطن في المستقبل ، وهذا ما يضفي المزيد من الهيبة والإجلال على هذا السلوك الحضاري الرائع للشعب المصري ، شباب وشيوخ وعجائز رأيناهم أمام اللجان ، بعضهم أتى على عكاز ، سألت سيدة عجوز تتكلم بصعوبة بعد تصويتها : يا ترى أتجاوز حدودي لو سألتك عن اختيارك ، قالت : أبدا ، أنا قلت نعم ، فقلت لها : لماذا ؟ قالت على الفور وبسرعة : حتى يعود الجيش إلى ثكناته . ساذج جدا ، بل مغرض يعوزه الضمير ذلك الذي تحدث أمس أو يتحدث عن أن هذه الحشود الضخمة خرجت بدفع من تلك القوة أو تلك الجماعة أو ذلك الحزب ، وقد وصل التدني وانعدام الأخلاق إلى حد أن ينشر موقع إحدى الصحف التابعة لنجل صفوت الشريف أن الإخوان أغروا الناخبين بالزيت والسكر من أجل أن يصوتوا بنعم ، هذه شتيمة علنية بالغة الإسفاف للشعب المصري ، بقدر ما هي متدنية في الكذب والاستهبال ، كذلك الألعاب غير الأخلاقية التي ارتكبها البعض عبر نفس الموقع الالكتروني من خلال رسائل الموبايل الإخبارية للمشتركين ، وقد أتتني واحدة منها تقول أن اللجنة المشرفة على الانتخابات قررت مد فترة التصويت إلى التاسعة مساء ، وهو ما ثبت كذبه وأنه مختلق جملة وتفصيلا ، وكان الهدف منه حرمان قطاع من الشعب من التصويت اعتمادا على أن هناك وقتا إضافيا يمكن أن يذهب فيه ، هذه سلوكيات غير أخلاقية وغير شريفة في الصراع السياسي . رغم أن بعض القوى والأحزاب والجماعات والكنائس حرصت على دعوة الناس بكثافة للتصويت بنعم أو لا ، إلا أن الغالبية الساحقة من الذين خرجوا للتصويت لا يعرفون حزبا ولا جماعة ولا تيار ، ومعظمهم يقول لك أن هذه أول مرة يخرج فيها للتصويت ، وكانت روح الحرية والقبول بالاختلاف حاضرة بروعة ورقي مذهلين ، لدرجة أن بيوت بعض الأصدقاء الإسلاميين الذين أعرفهم كانت مقسمة في رؤيتها لمصلحة الوطن ، فالزوج صوت بنعم والزوجة صوتت بلا ، وكلاهما من التيار الإسلامي ، وحتى وقت قصير سابق على الاستفتاء كان الحوار متواصلا والأسئلة القلقة تشيع بين الأصدقاء ، وأذكر أني كنت في الدوحة عندما أتتني رسالة قصيرة على الموبايل من أحد الجيران يسأل : نعم أم لا ، فضلا عن الاتصالات الهاتفية الكثيرة التي كانت تستطلع الرأي وتريد أن تطمئن إلى اختيارها ، وتشعر أن السؤال فيه لهفة واضحة ، وكأنه قرار مصلحة شخصية مباشرة ، كأنه يستشيرك في شراء شقة أو ملك خاص ، وهذا ما لم تعرفه مصر منذ أكثر من ستين عاما . الإقبال المذهل والطوابير الشعبية التي وصلت إلى ما يقرب مسافة محطة أوتوبيس في بعض اللجان أصابت بعض نشطاء الفضائيات بالتوتر والهلع ، بعضهم استمعت إليه على فضائية عربية وهو يقول بأنه كان الأفضل أن يقود الجيش المسار ويقدم إعلانا دستوريا بدلا من الاستفتاء ، وأضاف جنابه أنه ليس مطمئنا إلى إشراف القضاء على الاستفتاء أو الانتخابات والأفضل في نظره أن تتشكل "مفوضية شعبية" للإشراف تتكون من طلبة الجامعات وربات البيوت ونشطاء ، أي والله هكذا قال ، وأنا أعذره في تخبطه واضطرابه ، لأن الشعب عندما يتحرك وينتزع المبادرة سيكون هو السيد وهو الشاهد والمشهود وهو الحقيقة الوحيدة التي يراها الجميع ، وعندما يحدث ذلك ستذبل صور أمثال هذا المناضل التليفزيوني وأمثاله ، ويعرف قدره وحدوده ، وتتقلص فرص ظهوره الفضائي ، وهذا هو خيال المعاناة وخطر التهميش السياسي والإعلامي الذي يهيمن الآن على عقول قيادات حزبية قديمة ونشطاء الفضائيات ، وبالمناسبة لا أفهم أي معنى للموقف المتطرف الذي وقفته الفضائيات المصرية بالكامل بما فيها تليفزيون الدولة ضد التعديلات ، هذا لغز ربما يحتاج إلى بعض التعليق . [email protected]