هشام رأفت ..أشهر كاتب فى أكبر دار للأخبار فى الشرق ، "شمس الحقيقة "، هو إسم الجريدة التى أرأسها ، حياتى مزدحمة لا أجد وقتا ألتقط فيه أنفاسى ، صورى تتصدر الجريدة مع الكبار ، مقالى اليومى تقرأه كبرى المحطات ، على مكتبى تتراكم الدعوات للسهرات والحفلات من كبار أهل السياسة والفن والرياضة ، لا أستطيع تلبيتها جميعا ، تتهافت الفضائيات على مكالمة – مجرد مكالمة- منى ، دور الطباعة فى الشرق تتسابق لطباعة كتبى ، الجميع ينتظر دوره لسماع رأيى فى مسألة أو قضية ، الرأى العام يناقش مساءا ما أكتبه صباحا ، كل هذا ولا أشعر بسعادة .. فأنا رهين التليفون الأحمر بجوارى ، فهو الوحيد الذى يشهد على هزيمتى : - - الو .. - - أيوه سعادتك .. أهلا بمعاليك .. - - إيه ياهشام .. مش قادر تخللى الناس تفرح ؟ الشعب متوتر .. اكتبلهم حاجة .. الجورنال عندك لازم كله يبقى أفراح .. نكت .. صور ستات حلوة .. إنت كبرت واللا إيه ياهشام - - أوامر معاليك يافندم - - - ألو.. ياهشام ..الناس رايحة يمين .. اكتبلهم علشان يروحوا شمال .. - -حاضر معاليك يافندم - - - ألو ..ياهشام ..الناس بقت مابتحبش الكورة .. خلليهم يحبوها .. - -حاضرمعاليك يافندم .. - - - - ألو ياهشام .. الناس بدأت تفكر .. خلليهم مايفكروش .. - -حاضر معاليك يافندم - - - ألو الناس زهقانة .. اديهم تسالى .. - -حاضر يافندم يافندم .. - - - الناس صاحية .. خلليهم يناموا .. - - حاضر معاليك يافندم - - - ياهشام الناس بتحب فلان .. خلليهم يكرهوه .. - - حاضر معاليك يافندم ..
- ياهشام الناس بتكره فلان .. خلليهم يحبوه - - حاضر معاليك يافندم
- ظللت أعواما طوالا أبتهج بمنصبى ، أدخل مكتبى أو أخرج منه فيهب كل من أمر به واقفا يعظمنى ، الآن لم أعد احتمل لعب هذا الدور، كبرت ، رجلى والقبر ، هواتف مكتبى كلها تمدحنى إلا هذا الهاتف الأحمر ، الذى أستحيى بعض الأحيان أن أنظر إليه ، فيخيل لى أنه يضحك مما أعانيه ويخرج لى لسانه ، أشعر فجأة أننى مسجون داخلى ، معتقل ، جريدة شمس الحقيقة لاهى شمس ولا هى حقيقة ..لا أستطيع حتى التنفس إلا عن طريق الهاتف الأحمر .. ..أشعر بغثيان .. اتقيأ كلما سمعت صوت رنينك.... حسابى عسير .. اريد الخروج من هنا .. كيف لى الخروج وانا سجين المرتبوالمزايا والمنصب والهدايا .. والعمر زحفت به السنين ..حتى البعد عن المنصب والإستقالة ، مرهونان برنين الهاتف الأحمر .. - ................................................................................... - حمزة سليمان ، رئيس شئون العاملين بشركة صالح بك زاهر ، طوال حياتى وأنا أحب الإلتزام فى كل شىء ، لذلك عهد لى صالح بك بمفاتيح الشركة ، فقد كنت وصالح بك زميلان فى الحكومة ، ثم فتح الله عليه بشركة اخذنى معه امينا عليها ، كان هادىء الطبع يحب الناس ويأنس اليهم وبهم ، ولكن لعبة المال والبورصة أوغرت صدره فجأة ممن حوله ، حتى انه احيانا يخيل لى انه يرتاب منى ، تغير صالح بك كثيرا عن يوم عرفته ،لم يعد الرجل الجدع الذى عرفته ، ولكنى عزيت نفسى بان هذا شأن كل صاحب عمل ، حتى لاحظت أنه يقرب إليه أشخاصا لم يكن ليعرفهم ، ويبعد عنه آخرين كان يمدح أخلاقهم الدمثة ، التفت جماعة المنتفعين حوله وأوغرت صدره من كل من هو أمين وعفيف وطاهر ، وقع صالح بك فى الفخ وظن أنه أمهر وأحذق من عرفته البشرية ، حتى استدعانى مرة الى مكتبه : - - القرار ده انا كتبته ووقعته وينفذ فورا ياحمزة - - قرار ايه يافندم ؟خير - - خير طبعا عندنا شوية ألاضيش رفدتهم مش عاوزهم فى شركتى - قرأت الاسماء فاصبت بفجيعة - - لكن ياصالح بك دول أحسن ناس فى الشركة خلقا وانتاجا - - متهيألك ياحمزة .. انت راجل طيب مغشوش فىهم .. لاتغرك الدقن والزبيبة .. دول بتمنوا الشركة تفلس يلحمزة .. الناس بتوعى قالولى انهم بيتكلموا عليا بالشر - فقد صالح بك القدرة على التمييز بين الخير والشر، أصبح الشر هوكل مالا يريده هو ، اتخذ بهلوانا صاحبا له يسليه ويوشى بالموظفين له ، وينقل له مايقولونه وما يفكرون به ، شماشرجى أراجوز ، يسليه ويتلاعب به ، - - انت عارف ياحمزة مصطفى اللى بيصلى بيكم إمام ، ده حشاش كبير ، أمال أنا باصلى لوحدى فى مكتبى ليه ، دول كلهم كدابين ياحمزة ، ارفدهم كلهم .. - -لكن ياباشا دول عندهم ولايا - - اسمع ياحمزة . دى فلوسى أنا .. أشغل اللى انا عاوزه .. وارفد اللى أنا عاوزه .. - صالح بك نسى ماكان يقوله بالأمس عندما كان موظفا معى فى الحكومة التى كانت لاتعطيه حقه ، كان يقول وقتها أن المال مال الله ، بدليل إن ربنا قال : وآتوهم من مال الله الذى آتاكم .. - الآن أصبح المال ماله هو ، يوزعه كيفما شاء ووقتما يشاء ، صالح بك وضع نفسه مكان الله يوزع الأرزاق .. - العصابة من حوله زينوا له أنهم من طينة الملائكة والآخرون من نار أبليس ، - دخل زينهم الفوال على صالح بك فى مكتبه ضاربا الباب بقدمه ، وخبط بيده على مكتبه : - - انت رفدتنى ليه ؟ انت فاكر نفسك مين ؟ انا هاكسر لك الشركة دى .. - رد صالح بك : مين قال كده ؟ ياحمزة .. تعال .. - هرعت الى مكتبه - -اوامرك ياصالح بك - - هو اسم زينهم فى الكشف ؟- - - ايوه يا افندم - - غلط طبعا .. زينهم من الناس المخلصين للشركة .. دى غلطة .. شوف لى ياحمزة غلطة مين وقوللى .. - جبان ورعديد ياصالح بك .. لا يهمك اصابة ابنتك بالداء الخبيث ولاتتقى الله فى افعالك .. لقد مللت منك ..أشعر بغثيان .. اتقيأ كلما سمعت صوتك.. حسابك عسير .. اريد الخروج من هنا .. كيف لى الخروج وانا سجين المرتب والعمر زحفت به السنين .. - ....................................................................................... - الجندى خلف بدوى الشريف ..فرد حراسة وحامل مفاتيح عنبر المسجونين فى السجن العموى .. من كفر مفتاح مركز دشنا ، اتعجب لأن إسمى ينتهى بلقب جدى : الشريف ، وسبب عجبى واستغرابى له أننى لست شريفا بالمرة ، نعم ، أنا أغلق العنبر على بشر جوعى وعطشى ، نختلس طعام المساجين ونأكل أغلبه ، حاولت مرة أن أكون شريفا ، دسست فى طعام رجل عجوز شيئا ممنوعا ليأكله السجين مع وجبة غذائه ، لم أكن أتصور أن السجن سينقلب رأسا على عقب ، إنها بصلة صغيرة أحببت أن أهديها سجينا عجوزا ، جاء المأمور وحاشيته وكان التحقيق الذى فرض حصارا على المساجين ثلاثة أيام ، من يومها عزمت الأمر على ألا أجرب الشرف ثانية ، -جندى خلف ..اقطع النور عن الزنازين
- تمام يافندم .. جندى خلف ..فلان حبس انفرادى ضرب .. جلد .. ..ة -
- تمام يافندم ..
لاتعلم أمى أننى حارس السجن ، كذبت عليها ، قلت لها أننى أحمى الوطن من أعدائه ، لو عرفت ماذا أفعل لضربتنى بعصاها ولبصقت فى وجهى ، ستقول أننى أسلم الوطن لأعدائه ، العنبر كله مساجين عارضوا الحكومة ، يقولون علنا ما أهمس به أحيانا بينى وبين نفسى ، أراهم سعداء فى زنازينهم ، وأرانى بائسا فى سجن داخل جسدى ، بعض الليالى لا أنام ، أتحسس مفاتيح العنبر بين لحظة وأخرى ، وددت لو فتحت باب العنبر وأطلقت سراحهم جميعا ، لكنهم سيطلقون الرصاص عليهم ، وأنا أطلق على نفسى كل ليلة رصاصا من نسيج أفكارى وخيالاتى ، ويلى ، أتذكر جلستى فى ضريح سيدى عبد الرحيم القناوى ، أوحشنى سيدى القناوى أريد أن أذهب إليه ، أخرج من هنا ، أنا محبوس ، زنزانتى أشد إيلاما من عنبر المساجين ، أشعر بغثيان .. اتقيأ كلما سمعت صوتا يهتف بى : عسكرى خلف بدوى .. أطفى الأنوار .... حسابى عسير .. اريد الخروج من هنا .. كيف لى الخروج وانا سجين المرتب والعمر زحفت به السنين ..