لعل أبرز آثار ثورة 25 يناير ما يُمكن تشبيهه بالطلقة الاحتفالية التي تنطلق الى السماء حيث تتناثر آلاف الجزئيات, ولذلك أظن أن عددا كبيرا من الأحزاب والجمعيات ستنطلق في الفضاء المصري , وهنا تبقى وقفة هامة للجادين والمهمومين بحب الوطن وخيره لتفادي عثرات الاصطفاف في هذا الطابور الطويل لنيل حصة ما من تمثيل المجتمع, تتشرذم معها الفاعليات وتتعدد.. وفيما يخص جماعة الإخوان المسلمين بوصفها أكبر فصيل سياسي مصري,فأظنها بحاجة الى وقفة جادة للإجابة على ( أسئلة اللحظة الراهنة ), وأحسبها أسئلة مفصلية وهامة, وقد كتبت فيما مضى بعنوان ( نحو مراجعة إخوانية ) وافق عليها بعض الإخوان ورفضها بعضهم, وتبقى اللحظة الحالية أجدر ما تكون لقبول فكرة التوقف والتأمل والمراجعة.. الخروج من الماء أظن أن ثمة مدخلا أحسبه هاما, ينطلق من عنوان المقال,حيث ساهم الإخوان بجد وإخلاص لخدمة المشروع الوطني والإسلامي عبر سنوات طويلة, وقد دفع الإخوان فاتورة التمسك بهذا المشروع ,فمنهم من قُتل ( كما حدث مع الأخ مسعد قطب وغيره) بالإضافة الى الاعتقال والمحاكم عسكرية والترويع الدائم وإغلاق الشركات وحملات تشويه من إعلام الدولة والإعلام الخاص الموجه من كبار رجال الأعمال, وقد عاش الإخوان يحافظون على تنظيمهم ما أمكن بتضحيات كبيرة, وكانت أغلب لقاءات الإخوان الإدارية والتربوية تتم بسرية بالغة خوفا من بطش النظام على الرغم من سلمية النهج واعتداله ووسطيته, وبرزت بعض الأنشطة العامة في الانتخابات وغيرها, ولكن ظل الجزء الأكبر من النشاط الإخواني معروفا لدى الأمن وغير معروف لدى كثير من الناس, حيث كان التنظيم ( في أغلبه) يتنفس "كالسمك" تحت الماء !! , وليس هذا قدحا فيه إنما هو وصف لواقع قمعي بطشي أقتضته الضرورة .. إشكاليات أمام الحزب في أولى ملامح الخروج من تحت الماء أعلن الإخوان تأسيس حزب تحت أسم ( الحرية والعدالة), وهنا تبرز بعض الإشكاليات: 1/ صرح بعض قادة الإخوان أن الحزب سيكون مفتوحا لكل المصريين, ومن ثم فسيدخله إخوان وغير إخوان, مسلمون وغير مسلمين, نساء ورجال, ولم يتدرب, ولم يعتد ( عموم الإخوان) على العمل معاً داخل هذه التركيبة من قبل, إذ لا يجتمع رجال الإخوان ونسائهم في أعمالهم التربوية والإدارية, فما بالنا باجتماع نساء الإخوان ( في فاعليات الحزب) بغير رجال الإخوان ( في نفس الفاعليات), وهذا يسري على رجال الإخوان مع نساء غير الإخوان؟؟ 2/ هل يمكن أن يجلس أعضاء الحزب معا يتناقشون ويبلورون موقفا ما , بينما بعضهم ( الإخوان) يريدون مراجعة قيادتهم ( في الجماعة) للتنسيق والتشاور, وبقية الأعضاء ( من غير الإخوان) يتنتظرون ما تسفر عنه هذه المشاورات؟, وماذا يحدث إذا تبلور موقف ما أو قرار ما من أغلبية أعضاء الحزب أو إحدى لجانه وكان للجماعة رأي أخر؟ فهل يُعرض القرار على الجماعة لإقراره أو رفضه؟ وما هو موقف غير الإخوان في الحزب حينما يشعرون أن الحزب يُدار من خارجه؟ 3/ في أدبيات وأعراف العمل السياسي تجري مناورات وتحالفات وتفاهمات وواقعيات تحكمه, والتي قد تتصادم مع اتساع مساحة الثوابت التي عبر عنها من قبل عضوا مكتب الإرشاد ( الأستاذان جمعه أمين ومحمد عبد الرحمن ). 4/ كيف تقبل بقية الأحزاب المصرية التي ترغب في التنافس الحر أن يكون لإحد الأحزاب جماعة من خلفه قد تقوم بالتمويل أو التوجيه أو غير ذلك؟ 5/ مخاطر التأميم : أعلنت بعض القيادات الإخوانية أنه من أراد المشاركة السياسية من الإخوان في أي حزب أخر فهو معرض للفصل, وهنا تبرز إشكالية أخرى,فكيف يقبل الإخوان أن ينضم لحزبهم أحد من خارج الإخوان من يكون ( على سبيل المثال) عضوا في مؤسسة لدراسة اللاهوت, أو عضوا في الجمعية الشرعية, أو له أي نشاط اجتماعي أخر , ويرغب بأداء دور سياسي ما؟ فمن المتعارف عليه أن الحزب ( لا يؤمم ) أعضائه, وكذلك الجماعة.. ما هو المخرج ؟ نموذج إدارة دولة 1/ أفكار من خارج الصندوق :إن الإخوان عندما يقدمون أنفسهم لمجتمعهم في كيان سياسي, فلا أحسبهم كغيرهم من القوى السياسية, فقد يكون مفهوما أن يطرح حزب ايدلوجي أوعلماني أو ليبرالي او يساري أو قومي نفسه على المجتمع من خلال برنامج أو رؤية تُصاغ من مؤسسيه أو مفكريه, بينما أرى أنه على مؤسسي مشروع الإخوان استلهام روح الثورة الوطنية المُجمعة من خلال تقديم ( إطار متميز مختلف عن غيره ), يكون بمثابة نموذج إدارة دولة تتعامل مع كل أطياف مجتمعها, يتمدد في فضاء الوطن كله, ولذلك أقترح أن تدعم الجماعة تأسيس الحزب المقترح بكل أنواع الدعم ثم تعمل على استقلاله استقلالا تاما إداريا وفنيا وتمويليا,ولعل نقطة البدء تكون بأن أن توجه الجماعة الدعوة لرموز وطنية ( من غير المؤطرين حزبيا ) من رجالات المجتمع في السياسة والاقتصاد والاجتماع والإعلام والتعليم , للمشاركة مع فصيل منتخب من أعضاء الجماعة, يُنتخب من بينهم جميعا أعضاء لجنة صياغة برنامج حزب يكون بمثابة نموذج لإدارة دولة لا حزب أو جماعة, ولعل الاستعانة برموز مصرية عاشت في الخارج مناخ الحرية تكون جديرة بتقديم حلول من خارج صندوق الاستبداد الذي تأثرت به جميع مكونات المجتمع المصري دون استثناء.. 2/ العجلة أخت الإبطاء: هكذا يردد أهل الشام من أمثالهم, فإذا كانت السرعة محمودة فإن العجلة والإبطاء مذمومان, فالوطن ليس صفقة يمكن أن تضيع, لكنه يعيش آلاف السنين, وهنا تكمن أهمية ألا يتعجل أحد أو ينأسر بانفعال اللحظة.. 3/ استدراك : إذا كان الإخوان قد صاغوا برنامجهم فعلا, فإنه يمكن استدراك ذلك بدعوة هذه الرموز الوطنية للنظر في البرنامج المقترح وقبول اقتراحاتهم المعتبرة بروح التواضع والتعايش.. 4/ تمصير المصطلحات : إذ ندرك أنه في كثير من بلدان العالم من تبنى أفكارا دينية أو قومية أو ليبرالية كانت تقتات على التفرد والإقصاء, وندرك أنه لا يمكن لأي فكرة أن تعيش دون أن تتلمس حاجات الناس وآمالهم, وندرك أن ثمة فوارق ضخمة بين التيارات المختلفة أنتجتها روح التطرف والإقصاء والعزلة الذاتية, ولذلك يكون من الأهمية بمكان تحقيق قدر من الانفتاح على جوانب النفع في مختلف الأفكار, مع نبذ أفكار التعصب, لإدراكنا أنه من المهم أن يتعايش بنو الإنسان في أي وطن وفقا لتعظيم القواسم المشتركة بينهم, على أن يكون ثمة مجالات أخرى لتفرد الإنسان وتميزه عن غيره, ولعل تطبيق عملي لقاعدة رشيد رضا الذهبية ( فلنتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه ) تكون عنوانا للمرحلة, فإذا كان ثمة طرح تحت راية إسلامية يُركز على جوانب خلاف الإسلام مع فكرة القومية, فإن الكيان المقترح يركز على جوانب الاتفاق معها, بمعنى تجنب الطرح الذي يرتكز على المغالاة والفرقة بشكل عام, وهذا يدعونا الى ما يمكن تسميته "تمصير المصطلح"- وهنا يمكن القول باعتزاز الكيان المقترح بفكرة القومية بالمفهوم المصري الذي تمتد مصالحه وروابطه مع اقليمه العربي, والاعتزاز بالمشترك مع الفكر الليبرالي في الاقتصاد الحر دون الإخلال بمصالح الوطن العليا التى تتطلب إدارة وتملك الدولة لبعض القطاعات الاقتصادية الهامة, والقبول ايضا بمفاهيم تداول السلطة وحرية تكوين الأحزاب وتعميم ثقافة الانتخابات لتنسحب على إدارة المؤسسسات الإعلامية والاقتصادية والسياسية والنقابية.. إن " تمصير المصطلح " يعني استقلالية الفكر المصري ,دون التقيد بأسر المصطلح في معناه الشائع والمتداول فكريا أو سياسيا, بما يسمح بأخذ جوانب النفع التي تتسق مع ثقافة وأعراف وتاريخ الشعب المصري لخدمة الوطن والأمة ولإحياء فكرة العمل المتعاون المثمر البناء الذي يُجمع ولا يُفرق, يستوعب ولا يختزل, يُضيف ولا يخصم.. 5/ جمهور الحزب : بعد أن تتبلور الفكرة المطروحة ( اختيار نخبة , تقوم بصياغة رؤية مشتركة) يتم توجيه الدعوة للاصطفاف مع الحزب لجمهور الشعب المصري, ( إخوان وغير إخوان), وقد يقبل بها بعض الإخوان وقد يرفضها بعضهم, وقد يسع بعض الإخوان عمل الجماعة الدعوي دون الحزبي, وقد يسع بعض الإخوان ( في العمل الحزبي) حزب دون حزب, وهذا هو مناخ الحرية الصحي الرشيد.. مخاوف وتوجسات بلوغ سن الرشد : إن خوف بعض قيادات الجماعة على أفراد الحزب إذا انطلقوا في العمل السياسي دون رابط عضوي يربطهم بجماعتهم يعكس شك هذه القيادات في بلوغ أعضاء الحزب سن الرشد (بمعناه المعنوي لا العمري), لقد قالوا قديما في الأمثال ( أرسل حكيما ولا توصه), وفي تاريخنا الإسلامي أرسل رسول الله معاذا الى اليمن ومصعبا الى المدينة وهم من صغارالشباب مطمئنا الى حسن إدراكهم لمهامهم. أعلم أن بعض الأباء يظلون يقاومون فكرة أن ابنائهم قد كبروا ويحق لهم اتخاذ قراراتهم بأنفسهم, فالولد يكبر ثم يتزوج وقد يخرج من بيت أبيه يدير شئون حياته وعمله وبيته بمفرده, وهنا يكون على الوالد أن يطمئن على أصطحاب أبنه للقيم التي تربى عليها في بيت والده, وربما يشرد أبن على قيم والده, وربما يكون في الشرود عنها نفع, وربما لا يكون , لكننا لا نملك إلا التسليم باستقلالهم.. استقلال مفيد : استقلال الحزب استقلالا تاما يعني استقلال الجماعة من تبعات قرارات الحزب التي قد تكون أحيانا برجماتيه أو واقعية أو متدرجة على النحو الذي قد يتصادم مع بعض ثوابت الجماعة, فلا يلزمها ذلك ( لأنها مستقلة),كما ان الحزب قد يرى غير ما تراه الجماعة ( لأنه مستقل), وسأضرب مثالا واحدا لتقريب الفكرة: ربما ترى الجماعة أنه لا يجوز رئاسة الدولة للمرأة أو القبطي انحيازا لاجتهادات معينة, وربما ترى الجماعة وفقا لثوابتها الأصيلة ضرورة استرداد أرض فلسطينالمحتلة من البحر الى النهر, بينما يرى أعضاء الحزب ( بتشكليته المختلطة) أعتماد رأي فقهي أخر يرى بإمكانية قبول رئاسة الدولة للمرأة أو القبطي وفق اجتهاد يرى أن هذه الرئاسة لا تتطابق مع مفهوم الولاية العظمى, كما يمكن للحزب ( بتشكليته المختلطة ) أن لا يرى بأسا ( لمصلحة وطنية ما ) أن لا يتعرض (مرحليا) لاتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني ( بمعنى : لا يعلن احترامه لها, ولا يطالب في الوقت نفسه بإلغائها), وهو ما قد يتعارض مع موقف الجماعة التي تنتسب و تنظر باحترام الى جمهورها الإسلامي العريض . وفي الختام : أقولها ( والله ) حبا واحتراما وتقديرا لهذه الجماعة المناضلة, وقد أصبحت (محل النظر والرصد في الداخل والخارج ), إنها إن أدركت وتواكبت مع الواقع ( مُعطيات اللحظة بكل أبعادها ) يُمكن أن تُقدم نموذجا حزبيا يكون مُلهما للحركات الإسلامية في كل مكان, ونموذجا فريدا لإدارة دولة لا جماعة, ومعبرا عن حضارة الوطن, متوافقا مع كل مكوناته, هنا يمكن أن تصنع الجماعة ( صُلحا ) تاريخيا مع كثير ممن يتوجسون من وجود الإسلام السياسي على ساحة العمل السياسي.. يتبقى محور أخر أحسبه هاما, وهو مستقبل الجماعة حينما تتنفس أيضا خارج الماء, وهذا ما نتعرض له في المقال القادم إن شاء الله.. [email protected]