أتجول فى الوطن العربى ... لأبحث عن ماتبقى من أيام الزمن الجميل ... أفتقدت لوحة زيتية نادرة فى قريتى التى كانت جميلة قابعة على أطراف الدلتا الخضراء فى شمال مصر .. شخوص اللوحة ومسرح الاحداث لايفارقوا مخيلتى .. شخوص اللوحة هم رجال ذلك الزمان , ومسرح الأحداث هو "المصطبة "التى كانت تجمعهم ساعة العصر فى حديث ودى رفيع متمدين .. ابحث عنه فلا أجده وسط ركام المدنية الحديثة. احتجت بعض الوقت لأفهم السبب الكامن خلف ابهار تلك اللوحة .. كانت تلك الأيام شديدة القسوة على الانسان فقد جعلت من الفقر صديقا مشتركا للجميع... لكن كيف ارتسمت اللوحة المبهرة للانسان المصرى فى ظل ذلك الفقر ؟؟؟؟؟ أدركت السبب ... لم يكن الفقر آنذاك سببا للخنوع والضعف والتنطع والبخل ... بل كان سببا للكبرياء والألفة والكرم والتواصل. أنذاك ... أى حين الفقر, لم تكن تسمع كلمة نابية من شخوص تلك اللوحة المصرية... لوحة ولدت شخوصها قبل العام 1950 وتربت على الفضيلة ...غالبية أفراد المجتمع كانت الفاظهم عفيفية .. كان يكرم الضيف , ويكرم الجار ... كانت تغنى أم كلثوم وعبدالوهاب .. كان يقرأ الشيخان عبدالباسط ومصطفى اسماعيل.
أما الآن ... وماأدراك ماالآن ..حيث تبدلت مسامع المتلقى بسبب دخول السوس الى العظم منذ أكثر من نصف قرن ...كون السوس حول نفسه جيشا للدفاع ضد أى مضادات حيوية من شأنها اعادة الانسانية والرشد للمواطن المصرى ... فسمح ذلك المواطن لكل ماهو مناف للتراث البشرى عامة والمصرى خاصة بالتغلغل الى وجدانه والتحكم فى سلوكياته العامة .. مجرد التجرأ على تأليف أغنية بحبك ياحمار.. والتجرأ على سماعها ... هو مؤشر كان يؤكد الطريق نحو النكسة الأخلاقية لبلد عظيم كان كل ثروة أبنائه أيام الفقر هو الرجولة والكبرياء.... ومعلوم أن النكسة العسكرية ممكن تداركها بانتصار, كما حدث فى أكتوبر 73 .. أما النكسة الأخلاقية فيصعب تداركها !!!!. فى أيام الغنى .. ورواتب اعلامى الفضائيات "والأرزقية" فى عالم الصحافة والرقص والنخبة... التى ماكان لهم ان يحلموا بأول رقم من تلك الأموال فى خانة الآحاد .. فقد صار الخنوع والتدليس وبيع الرجولة والألفاظ النابية التى تدخل بيوت المواطنين من مذيعى الفضائيات من المألوفات... وجدت ضالتى فى المغرب ...أحببت المغرب من خلال أدب أهله الذين زاملتهم أثناء الدراسة الجامعية فى المانيا ... وكان هناك ميول دائم عندى لزيارة ذلك البلد الحبيب .. أردت التعرف على أهله عن قرب .. كنت أبحث عن اللوحه الزيتية القديمة التى افتقدتها فى مصر .. لم تكن عندى خطة للحصول على دعوة رسمية .. لاقامة فخيمة...لارسال تقارير صحفية .. تدخل فى اطار رحلة العمل .. لأقبض الثمن عن عمل لايقدم ولايؤخر.. عن عمل لايفهم من خلاله الإنسان المصرى كيف يعيش أخوه فى المغرب..!!. كيف يفكر ..وماهى مشاكله وأحلامه !!! نحن نجهل جغرافية وطننا العربى .. نجهل أسماء مدنه وعادات أهله .. مانعرفه لايمثل نصف بالمائة مماينبغى أن نعرفه عن إخواننا.. وعندما يحصل اعلامى على ميزة السفر الى هناك ولايفيد القراء من ابناء وطنه بنتائج ملموسة لتلك الرحلة .. أويفتح الطريق لهم نحو الفهم البينى للعادات والثقافة العربية بين أبناء الوطن العربى ..فينقل فكرة التوحد العربى نقلة نوعية إلى الأمام , وهو مايبدأ بالتواصل فى فهم الثقافات ومعرفة طرق التفكير والعيش.. فلايجوز ان تحتكر دولة لنفسها حق توصيل ثقافتها ولاتكلف نخبتها نفسها مسؤلية جلب الثقافة الأخرى ... سيما لوكانت تلك الثقافة مازالت تعبر عن التراث والأصالة والأخلاق ... وبذلك فمن شأنها أن تسهم فى العثور على اللوحة القديمة المفقودة فى مصر .. وإعادة أصحاب التراث إلى جادة الصواب .. وبالتالى إحداث ترقية جماعية للمواطن العربى فى كل مكان ..
فى المغرب تجد نفسك كزائرفى مواجهة سلسلة من المفاجآت المتعلقة بسلوك الأفراد...وتمسكهم بقيم ايجابية ...كان أكثرها وقعا على نفسى هى طريقة الوضوء فى المسجد حيث استعانة كل مصل بسطيل (دلو بلاستيكى صغير الحجم مثل ذلك الذى يستخدمه الأطفال عند اللعب على الشاطئ لتعبئة الرمال ) للوضوء ... وإلى الحلقة القادمة عن السطيل وعلاقته الوطيدة بالسنة النبوية وأخلاق المسلم التى يجب أن تعنى بتوفير المياه وليس تبذيرها.. هل يعرف كل عربى أو حتى كل مسلم هذا السلوك المتمدين فى المغرب.. أم أنا الجاهل الوحيد بتلك العادة الأصيلة؟ إلى الحلقة القادمة عن السطيل المغربى وأثره على الأخلاق العامة والضمير الجمعى للأمة.