"إذا استيقظت وأنت تتنفس... مبروك! فلقد حصلت على فرصة أخرى" أندريا بويدستون تشتهي خيوط الشمس , لكن حبسك الانفرادي يمنحك الفرصة رقم مليون لأن تتأمل, أصبحت خبيرا في التأمل لفرط الوقت الذي قضيته هنا, تتحسس رأسك , ليس كما قال صلاح عبد الصبور إن هذا زمن الحقّ الضائع لا يعرف فيه مقتول من قتله، و متى قتله و رؤوس الناس على جثث الحيوانات و رؤوس الحيوانات على جثث الناس فتحسّس رأسك تحسّس رأسك لكن لسبب أقوى وهو أن الضربة الماهرة للشاويش مطاوع الزيني لم تسلمك إلى النوم الا لبضع دقائق , في الحقيقة انت لا تعرف الوقت ..أنت تستنتجه ..لا ساعة ..لا كوه يمكنك من خلالها معرفة الوقت ولا حتى مزولة شمسية..لا شيء ..الرائحة هي هي ..والجدران المحترقة برداءتها تشبه في تقشر بشرتها الزواحف وربما الانسان عندما تصيبه حروق من الدرجتين الأولى والثانية معلوماتك الطبية جيدة..جميل انك لم تفقدها رغم انك طبيب ؟ أثناء ابتسامتك تتعثر عيناك بمشهد أصبح محفورا في ذاكرتك ..تماما مثل جغرافيا منزلك ..السرير هنا ..مكابس الكهرباء هناك ..لكن المشهد في السجن مختلف في بلاغة تعكس عمق المأساة..الجردل القذر الذي تتبول فيه لتعيد شرب بولك , والجدران الشبيهة بالزواحف المنقرضة , والقضبان الحديدية الصدئة ..وآهات بشرية لا تعرف مصدرها..وتلك "البطانية" التي تتواطأ مع الارق لتمنعك من النوم لكنك تحمد الله على أنك اعتدت على هذا الطعام المشوه الماسخ, وتكاد تبكي فرحا لأنك مازلت على قيد الحياة متشبثا بخيوط أمل مهترئة تعتمد على قاعدا "كلما نظرت إلى أصبعي المبتور ..تذكرت رجلا بلا ساقين" تتمتم الحمد لله ..تتبلل لحيتك السمراء الغجرية المتمرده بدموع طازجة قادمة للتو من القلب , وتعود مجددا لتلاوة القرآن القرآن الكريم يخفف من نهم اسئلتك الشرهة إلى اجوبة ليست مجانية : كيف تحولت بين عشية وضحاها من اسم إلى مجرد رقم؟ ولماذا لا يمر الوقت في السجن أبدا؟ وكيف ضاقت عليك الارض برحابتها واستحالت إلى قطعة بحجم خسارتك يطلق عليها زنزانة ؟ وكيف امكنك الاستسلام إلى كل جحافل الحشرات المنظمة التي استباحت جسدك مغتصبة خصوصيتك؟ لكنه القرآن وحده يحميك من الجنون ..كالوشم على الروح تنزل عليك السكينة, وتستعد للنوم وسط زنزانة معتمة بارده ..تحفظ رقمها جيدا زنزانة رقم 9 في عنبر 3 "ب" تقع على مساحة 2.5 في 5 أمتار ذات باب قصير القامة لإجبارك على الانحناء,مصنوع من خشب قديم بسمك كبير به كوة صغيرة تسمى النظارة ومن ورائه باب حديد , الزنزانة تفوح منها رائحة مثالية من خليط من دم وبول وبراز , على أرضية مؤثثة بأنواع غريبة من الحشرات لم تر لها مثيلا من قبل حتى أنها تحرك الأرض من تحت جسدك, لا تجزم أن تعبير وراء الشمس حقيقي الا عندما جربت هذه الزنزانة التي لا تدخلها الشمس ..وكيف تدخلها الشمس وأنت في منبع العتمة! تنام وسط الزنزانة الواقعة في السجن الذي يبدو كأنه بات ارضك وحياتك وتشعر أن الزنزانة ضيقة كتابوت رخيص تفكر أنك على أعتاب الطهو تمهيدا لاعدادك وليمة للديدان, تتحسر على حظ الديدان ..فجسدك النحيل المنهك لن يكون مأدبة جيدة تكبح شبح ابتسامة حاولت نحت قوس مقلوب على وجهك...تعاود تلاوة القرآن الكريم ..تشعر بالسكينة مجددا ..تتكور مثل جنين في بطن أمه لتحتل جغرافيا مساحة تكفي لقطة برية ..تنام كيفما اتفق! [email protected] * رواية لا ياشيخ صدرت الأسبوع الماضي عن مؤسسة شمس للنشر والتوزيع وتتناول القمع الامني في مصر