عكس خطاب العقيد معمر القذافي في مواجهة الثورة الشعبية العارمة في بلاده، شخصيته النفسية المعقدة في التعامل مع الأزمات الكبرى ، فبدلا من محاولة إبداء قدر من التنازل أو الدعوة إلى الحوار ، على غرار الحالتين المصرية والتونسية ، ذهب إلى نهاية الطريق ليهدد ب " التطهير والقتل والإعدام ، وتنظيف ليبيا من الثوار بيتا بيتا". القذافي الذي ظل دائما منذ انقلابه في 1969 يرى نفسه زعيما كاريزميا ، وينظر لذاته على أنه معلم ومسيح ومنقذ بدا موقفه ضعيفا مهتزا ، إذ انطوى خطابه على تمجيد حماسي لذاته ولأسرته ، وهو ما لا يفيد بعد سقوط ضحايا بالمئات. لقد وصف أعدائه بالمأجورين والكلاب والعملاء والخونة وغيرها من الألفاظ التي تؤشر بوضوح على هزيمته النفسية ، وأن الدعم ينحسر عنه حتى بين أنصاره الذي بدأوا ينضمون للثوار واحدا تلو الأخر . ولعل ما أكد ذلك أنه بعد سيل من التهديدات عاد ليعد بإصلاح عبر وضع دستور والإقرار بعدم ثقة الشعب في نظامه . وليس ذلك بمنطق " العصا والجزرة" ، لأنه استبق بمعاقبة جماعية للشعب على رفضهم له، حتى أنه دق بعنف على المنضدة ، وهو يقول صائحا " قد تندمون ساعة لا ينفع الندم... ". إن مضمون الخطاب لا يختلف كثيرا عن بيانات العمليات الانتحارية ، إذ بلغ حالة من " النرجسية المميتة" وعدم ادراك ما يحدث حوله ، وكأنه يشير إلى أنه والدولة الليبية وجهان لعملة واحدة ، وأن انهياره يعني اختفاء الدولة ، لذا سعى للتأكيد المستمر على أنه ليس رئيسا وإنما قائد ثورة وصانع مجد ليبيا. لقد حمل خطاب القذافي في ثناياه تجربة نظامه على مدار 42 عاما ، إذ أن رغبته الدائمة في أن يصبح " صلاح الدين الأيوبي" ، لم تصل به أو بنظامه إلى مستوى روبين هود ، حيث عمد منذ البداية على تفريغ بنية الدولة الليبية من أي منافسين أو قوى أو مؤسسات سياسية أو عسكرية ، حتى يبقى هو القائد والموجه وكل شيء، حتى أنه ذات مرة اتخذت المؤتمرات الشعبية قرارا برفع الضرائب ، فخطب بعدها قائلا إنه يلغي القرار لأنه يعرف الشعب أكثر منها ، كما بلغ الحال به إلى حل الجيش الليبي بعد هزيمته في الثمانينيات في تشاد متذرعا بأنه يعيد السلاح إلى الشعب، ثم أعاد تشكيله الجيش على أسس قبلية وأسرية ليضمن ولائه . إن شخصية القذافي الذي يرفض أن ينازعه أحدا الشهرة ، و لا يتورع عن معاداة أي رئيس أو دولة ، صبغت الدولة الليبية ، فأحلامه في الزعامة للعرب تارة ، وأخرى للأفارقة ضيع عليها أموال النفط الذي يأتيه منه كل صباح ما يقرب من مائة مليون دولار ، بينما تجاوزت البطالة ال 25 % بحسب بعض التقديرات ، وتركزت التنمية في بقعته المفضلة سرت (الوسط) ، وساد الفقر ونقص الخدمات الأساسية في الشرق والجنوب. لقد ربط القذافي أحلامه ومغامراته في الزعامة بحالة الخلل الاستراتيجي للدولة الليبية ( مساحة جغرافية ممتدة ، موارد هائلة مقابل ضعف سكاني وعدم كفاءة الجيش) ، ولذا شعر بالغيرة التاريخية من الدور المصري ، و كانت له فيه مطامع لم تقتصر على المياه والقبائل المجاورة فحسب. وفي غمرة هذه الأحلام ، سمح لأولاده بتحويل ليبيا إلى إقطاعية خاصة ، فسيف الإسلام الذي لم يخبرنا عندما ظهر في الخطاب بأي صفة يتحدث أمسك بالملف السياسي وظهرا إصلاحيا في السنوات الأخيرة وانتهى به المطاف ليشابه أباه في التهديد بالقتل ، بينما خميس ومعتصم تغولا في المؤسسات الأمنية والاقتصادية ، فيما مارس هانبيال هوايته في بيزنس الرياضة والمغامرات العاطفية. لذا فإن القذافي وقف في خطاب ليقول " إنه لن يترك ليبيا أبدا ، ولن يسافر إلى فنزويلا أو إلى أي دولة "، لأنه تماهى مع دولته التي صنعها على يديه ، واعتبرها ضيعته الخاصة ، ولذا فتعامل في خطاب بمنطق إما "قاتل أو مقتول".