مثلما خرج المارد من فوهة الفانوس السحري في الأساطير ، خرج شباب التحرير طليعة الثورة من صفحة الفيس بوك ، حرصت الأنظمة المستبدة علي التضييق علي شعوبها و إغلاق منافذ الحرية أمامهم ، الإعلام مسيس وموجه لخدمة النظام ، والأمن هو أقوي أجهزة الدولة و الحاكم الحقيقي لها ، ورغم ذلك نفذ جيل العفاريت أولادنا من ثقب الشبكة . ليس ذلك فحسب بل إن هناك آليات كثيرة استخدمها النظام لإحكام السيطرة و ذكرها المحلل السياسي المعروف ( نعوم تشومسكي ) في مقال منتشر حاليا بعنوان ( عشر استراتجيات للتحكم في الشعوب ) وأهمها : الإلهاء : ويقوم علي فكرة إلهاء الشعب بالتفاهات ، اجعل الشعب منشغلا منشغلا بالتفاهات حتي لا يلتفت للقضايا الكبري ، ومن أبرز الأمثلة علي ذلك ( كرة القدم ) التي كادت تتسبب في حرب بين مصر والجزائر قريبا . ثم سياسات (التدرج ) و ( التأجيل ) و ( مخاطبة الشعب كأنه قاصر يحتاج وصيا عليه ) وهي التي استخدمت لتمرير التوريث وكادت تنجح ، أما سياسة استدرار العاطفة فقد استخدمت بكثرة في الفترة الماضية لجلب التعاطف مع مبارك ، والأساليب السابقة تم شرحها بشكل مطول في كتاب ( أسلحة صامتة لحروب هادئة ) ثم جاءت استراتجية ( ابقاء الشعب في حالة من الجهل بحيث لا يكون قادرا علي استعمال التكنولوجيا الحديثة) عن طريق سياسة تقديم نوعية التعليم الأفقر للطبقات الدنيا ، ثم ( تشجيع الشعب علي استحسان الرداءة ) ونظرة لمدي إسفاف الفن في الفترة الأخيرة كافية لنفهم كيف تم ذلك ببراعة وأخيرا (تعويض التمرد بالإحساس بالذنب) عن طريق الإيحاء للناس أن هناك عيوبا في شخصيتهم أدت إلي ما هم فيه من تخلف مما يجعلهم يخجلون من أنفسهم ويشعرون بالدونية والنقص بدلا من أن يتمردوا ، وذلك يولد روحا اكتئابية مستسلمة في المجتمع ، تنشر شعار ( لا فائدة ) أو ذلك التعبير المفزع الذي قرأته مرة علي سيارة ( ما تحاولش غيرك ما قدرش ) كل شئ تم في مصر بالذات بمهارة وذكاء ونعومة أيضا ، مع ترك الباب منفرجا قليلا أمام بعض النقد الذي هو بمثابة ( المدح بما يشبه الذم ) علي طريقة أن هناك هفوات بسيطة في لوحة فائقة الجمال ، ولكن غفل أساطين السياسة عن تلك النافذة الحرة حرية مطلقة والتي يلتف حولها الشباب وتجعلهم يعيشون الألفية الثالثة ويخرجون من صندوق النظام المغلق ، الإنترنت . الشبكة العنكبوتية ربطت الشباب بالعالم كله وجعلته ينمي ثقافة موازية خارج المقرر الرسمي ، ثقافة تنظر للأمور بشكل نقدي وتبحث عن الحرية والعدالة الاجتماعية ، ولم يكن أحد يتخيل أن هذه النافذة البسيطة من الممكن أن يمر منها طليعة شابة تمتاز بالجسارة والتقدم ومواكبة العصر والولاء للوطن ثم يلتحق بها سريعا كل فئات وطبقات الشعب المصري في ثورة بيضاء موفقة تزيح نظاما عنيدا متجذرا وماكرا . مع نسمات الحرية البكر بدأت القوي الفاعلة في مصر تكوين أحزاب جديدة تعبر عنها ، دشنها (حزب الوسط) الذي فاز أخيرا بالموافقة علي إشهاره بعد 15 عاما من المحاولات ، هناك حديث عن حزب للإخوان المسلمين ( الحرية والعدالة ) و أحزاب لإسلاميين آخرين لم تتحدد معالمها بعد . تري أيا منهم سوف ينجح في اجتذاب شباب الثورة الفعال ذو التوجه الإسلامي ؟ الشباب الجديد اعتاد حتي في أيام التخطيط للثورة علي العمل ( العلني) و(العام ) معرضا نفسه وقتها للخطر بإعلان مسبق عن كل تحركاته والدعوة عامة للجميع فهو جيل مختلف عن الأجيال السابقة التي عملت من خلال ( تنظيمات سرية مغلقة ) وهذا فارق هام جدا لأن الشباب الجديد اعتاد علي (الشفافية والوضوح) ، كما أنه لا يقبل( أسلوب السمع والطاعة ) بل يريد (حوارا دائما علنيا وعاما وصريحا يتمخض عنه قرارات تحوز موافقة الأغلبية )، ينفر الشباب من آفات العمل السري مثل التخوين والاتهام بالعمالة وحجب المعلومات عن البعض وغيرها . الشباب الجديد يتسم بالبعد عن التنظير والاتجاه للعمل مباشرة علي أساس أن خير طريقة لحل المشكلة هو أن تبدأ في حلها بالفعل وأثناء المحاولة سوف تمسك بطرف الخيط وتتشبث به ويساعدك أقرانك فتنحل المشكلة . هم لا يحبون الكلام الكبير أو الكثير ولكنهم يفضلون أن نقول ما نفعل ونفعل ما نقول دون ادعاء بطولة أو مبالغة أو انفصال بين القول والفعل ، وهذا هو أحد مفاهيم الإسلام الحضاري وأقرب النماذج لتطبيقه حاليا هو النموذج التركي ، ولكن النموذج المصري لابد أن يكون أكثر نضجا حسب البيئة وأكثر تطورا حسب الفهم السلفي المنتشر لدينا . الأتراك الذين يمتازون بالتواضع يقولون أنهم في انتظار تطبيقات الواقع المصري الجديد ليتعلموا منه ، كما تعلموا منه واستلهموا منه دائما في الماضي ، أحب أن أشم عبير التفاؤل فيما يحمله لنا المستقبل القريب بإذن الله . [email protected]