ليس ما أقصه عليكم هو رواية على غرار رائعة الكاتب الأمريكي إرنست همنجواي ( العجوز والبحر ) والتي تحكي عن ذلك العجوز الصياد الذي كان يصارع سمكة ضخمة في قاربه المتهالك ، ليثبت أنه ما زال قادراً على التحدي بل ليثبت أنه مازال على قيد الحياة ، أما العجوز الذي سنصوره لكم فروايته من الواقع المرير واقع البؤس والشقاء ، وربما تكون قد قابلته في أحد الشوارع وفي بعض الأزقة ، فلم تلتفت إليه ولم تعره انتباهك .. فهو عجوز سبعيني وربما تخطى السبعين ، كان يمشى بانحناءة واضحة وكأن ظهره يلامس الأرض ، وأسنانه لم يتبق منها سوى اثنتان أو ثلاث ، وشعره الأبيض قد استراح على رأسه منذ سنين وسرح في لحيته حتى تمكن منها ، تعلو وجهه تجاعيد السنين المرة والأيام الثقيلة وترسم بوضوح خريطة ما تبقى من حياته فوق ما ذهب منها .. لم يكن ينظر إلى الواقفين هنا وهناك أو حتى يلتفت إلى السيارات التي تمخر عباب الطريق ، وكأنه تبرأ من هذا العالم الذي تنكر له وألقاه في زوايا النسيان ، فمشى يسعى إلى عالمه الخاص ، أو يحاول الوصول إلى يوتوبيا تبعده عن هذا الصخب وذلك النكران .. وفجأة وقف العجوز السبعيني وانتصبت قامته التي كانت مستغرقة في الانحناء ، ولمعت عيناه الشاحبتان ببريق الأمل كأنه وجد ما يبحث عنه .. أكوام من القمامة المتناثرة استوقفت العجوز ، فظننت وأنا أتابعه بعين حزينة وقلب مشفق أنه سيقف على تلك القمامة ليلقي ما بيده من أكياس ، لكن هالني أنه قد عاد إلى انحنائته ومد يديه المرتعشتين يقلب في أكوام القمامة بحثاً عن كسرة خبز أو بقايا أطعمة !! تحجرت عيناي بعد أن ألقيت جريدتي التي كنت أطالعها وأنا أتابع المشهد الذي لم أره منذ غادرت البلاد إلى حيث وجع الاغتراب على شطئان الخليج ، لا أعرف لماذا طافت أمام رأسي أربعة عشر عاماً من البعاد ، ولا أعرف لماذا تذكرت أبي الذي تلحف برداء الموت قبل أن أنعم بصبحته طويلاً وقبل أن يتحرك في نفسي الشوق إلى العودة ، لا أعلم لماذا رأيت في العجوز السبعيني بتجاعيده وانحناءاته ذلك الغد القادم المجهول .. ورحت أحدث نفسي كأني أساءل العجوز ، ترى أين رفيقة عمرك وزوجك التي كانت تنتظرك خلف الباب بأرغفة يابسة وقطعة جبن عتيقة أو بقايا فول أو قليل من العسل الأسود ، هل اختطفها منك مرض عضال فطفت بها على الأطباء بحثاً عن شفاء لم يأت وعلاج لم تقدر عليه ، ولم يبق من رفيقتك إلا ذكرى الأرغفة والعسل المر فلم يعد لك شريك تناجيه أو تهمس في أذنه أو حتى تبكي على كتفيه تشكو قسوة أيامك ؟! وأين أبناؤك ياسيدي ؟! .. هل ضاعوا كما ضاعت سنواتك السبعون ؟! هل فقدتهم في وقت كنت تحتاج إلى أن تتكأ على سواعدهم ، وتحمل على أكتافهم ، وفاءً بحقك وحفظاً لقدرك وسنداً لضعفك ؟! وأين أحفادك يا سيدي ؟! .. هل ابتلعتهم طرقات المدن واختطفتهم أرصفة المحطات فما عادوا ينادونك من بعيد ( نحبك يا جدي ) ويتحلقون حولك بأذرعهم الصغيرة وقلوبهم الغضة ؟! بل أين نحن ياسيدي ؟! لقد تركناك تنحني هناك على أكوام القمامة تبحث فيها عن قوت يومك ، لقد تركناك نهباً للجوع والبرد ، وما أقسى الجوع في وسط مجتمع يغص بأطعمته من كل لون ! وما أوجع البرد بين أناس يلتحفون بألحفة صوفية مزركشة تزهو بألوانها ، أو يرتدون فرو حيوانات قتلت ذبحاً لكي توضع على أكتافهم المكتنزة ! لم تسعفك شعارات الأحزاب الطنانة في ( الحفاظ على محدودي الدخل ) تلك الشعارات التي تنطلق في المكاتب مكيفة الهواء من فوق المقاعد الوثيرة خلف أدخنة السيجار الكوبي ، ولم تنتشلك مؤتمرات ( مقاومة الفقر والجوع ) المنعقدة في أفخم الفنادق التي ربما مررت أمامها من بعيد لكنك لم تتذوق من موائدها المفتوحة ملعقة كافيار أو فيلية مشوي أو حتى كسرة خبز !! فالفقراء يا سيدي لا تطعمهم الشعارات ، ولا يقتاتون على توصيات المؤتمرات ، ولا يستدفئون في ليالي الشتاء البارد بدفء مشاعرنا الزائفة ! نحن الذين أضعناك عندما أغرقتنا الحياة في رحلة بحث مضنية عن رزق نتصارع من أجله ، ومنصب فارغ نتسمك بكراسيه ، وأهواء فاسدة تجرفنا بعيداً وتقتل في نفوسنا الإنسانية الغضة ، نحن الذين أسلمناك للفقر والبؤس والتعاسة ثم جلسنا نتباكى عليك ، كمن أسلموا ( الحسين الشهيد ) لقاتليه ثم راحوا يتباكون وينوحون في مرثية سوداء تتكرر كل عام ، إننا نحسن الرثاء والبكاء وقليلاً من الدعاء أن يشفى الله مرضانا وأن يرحم موتانا وأن يسد رمق جوعانا !! لكننا لا نملك في أحيان كثيرة أن نترجم دعاءنا إلى أفعال ورجاءنا إلى أعمال .. كان العجوز السبعيني قد أضناه البحث في أكوام القمامة التي تذوق منها ما كان قريباً إلى فمه وأخذ منها ما أخذ ووضعه في أكياسه البالية التي يحملها ، ربما ليبقيها زاداً له في ليالي الصقيع القاسية ، ثم رفع قامته ولأول مرة يلتفت إلى من حوله فيراني ناظراً إليه تعلو الدهشة ملامح وجهي ، لكنه لم يكترث أو لعله نظر إلى نظرة عتاب وكأنه يقول لي ( لماذا تركتموني هنا أتجرع مرارة الحاجة والعوز ؟!! ) ، ثم انصرف بعيداً وقد ابتلعه الشارع المزدحم .. أما أنا فعدت بعد لحظات إلى جريدتي أتصفح صدر صفحتها الأولى لأجد عناوين تملأ مساحات كبيرة ( انتعاش اقتصادي ملحوظ وخطط جديدة في التنمية الاقتصادية ) ( العمل باجتهاد من أجل محدودي الدخل ) ( تحسن ملحوظ في مستوى معيشة الفرد ) ( استثمارات بمليارات الجنيهات .. ) عناوين تشعرك براحة زائفة ، وتنقلك إلى عالم مخادع ، لكن ما زالت صورة العجوز السبعيني تطاردني وأنا أقلب صفحات الجريدة ، وأحس بتجاعيد وجهه الشاحب وانحناءات جسده الهزيل وكأنها ترسم سطور الصفحات وخطوط العناوين !! قمت سريعاً منتفضاً وقد طويت صفحات الجريدة فتمزقت في يدي ، ثم ألقيت بها هناك حيث أكوام القمامة .. وانصرفت ! باحث وإعلامي [email protected]