حدثتني صديقتي المهندسة من طهطا – بمحافظة سوهاج – عما آل إليه الوضع في بلدتها التي تعشقها، والتي آثرت البقاء فيها لكي تخدمها بكل ما آتاها الله من علمٍ وعافيةٍ وقوةٍ. آثرت أن تعطي حق بلدتها التي نبتت في أرضها؛ وأن تعطي حق المجتمع الذي ترعرعت في وسطه. لم تغتر بشهادتها الجامعية لتذهب إلى إحدى شركات "المالتيناشيونال" حيث المال والوجاهة الاجتماعية الخالية من المسئولية الاجتماعية تجاه المجتمع والوطن؛ لم تتكبر بعلمها على أهل بلدتها البسطاء، بل فضلت أن تكون قلباً وجسداً وحساً "طهطاوية" من الدرجة الأولى. حدثتني وفي قلبها غُصة ممتزجةٍ بشجون قائلةً: "الوضع يتدهور في بلدتي؛ وليته يتدهور تنموياً وحسب، بل إنه يتدهور أخلاقياً وثقافياً وحضارياً". اقتربت منها وناشدتها بأن تفصح عما في صدرها. قالت في حسرة: "لم يعد الفلاح "الطهطاوي" هو الفلاح الذي أراه الآن؛ ولم تعد زوجته "الطهطاوية" هي ذاتها الزوجة التي ألحظها الآن؛ حتى الشباب لم يعدوا "طهطاويين" كما كانوا". فالفلاح الذي كان ينام بعد صلاة العشاء – استعداداً لقيام صلاة الفجر ليستلهم بعدها بركة ربه في حقله – صار الآن يصحو على آذان الظهر؛ ويذهب متكاسلاً متباطئاً إلى حقله، فلا يمكث إلا سويعات قليلة ليعود بعدها إلى بيته، وقد سُحبت منه البركة والعافية. ولم لا، وهو قد قضى ليله كله أمام شاشات الفضائيات، ينتقل من قناة إلى قناة. هذا مسلسل، وهذا فيلم، وهذا برنامج لكسب المليون، وآخر لقراءة "الطالع"، وآخر لتفسير الأحلام...هذا طبعاً غير الراقصات والمُغنيات. أما زوجته، فهي تشاركه في الفُرجة طوال الليل؛ والنتيجة أنها تستيقظ مثله على آذان الظهر؛ فلا خبيز ولا عجين ولا تربية طيور ولا بركة. فهي تتعامل مع شئون منزلها بنفس التكاسل الذي تعامل به زوجها مع حقله. ربما لأنها ستكون مشغولة بمشاهدة الحلقة الأخيرة من المسلسل "الفولاني" على ال mbc ثم على المسلسل "العيلاني" على قناة نايل دراما. وتضطر بالطبع – في نهاية الأمر – أن تشتري الخبز، وأن تشتري الفراخ...وعجبي. أما الشباب، فهم يسهرون لياليهم على الإنترنت، مرة على "الشات"، ومرة على "الفيسبوك"، ومرة على "الماسينجير" ومرة على "التويتير"...الشباب والشابات يتسامرون سوياً على شاشات الإنترنت حتى الفجر، وربما بعده. يتكلمون في كل شيء حتى سقط برقع الحياء...فاجتثت واقتلعت العفة من القلوب والعقول والنفوس بعد أن أُشربت الانحطاط والإسفاف. تقول لي صديقتي: الفتى يسير الآن في الشارع محملقاً ومتفحصاً في الفتاة؛ والفتاة صارت أيضاً أكثر جرأة في ملبسها وسلوكها....هذا كله يحدث في صعيد مصر. وأود هنا أن أتساءل: هل استخدام تكنولوجيا المعلومات الحديثة هو فعلاً معيار التقدم والنهوض كما يُقال لنا؟ وهل ازدياد عدد مستخدمي أجهزة الكومبيوتر يعد مؤشراً على وجود "مجتمع المعرفة" الذي ينادي به "برنامج الأممالمتحدة للإنماء"؟ إذا كنت تريد الإجابة على ذلك، فاقرأ المقال مرةً أخرى...