الرؤيا في الإسلام لها مكانة كبيرة، لذلك يقول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات يا رسول الله؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له). وقال أيضا: (الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة) لماذا؟ لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) ظلَّ ستة أشهر يوحى الله إليه بالمنام، فكان إذا رأى رؤيا تحققت مثل فلق الصبح. ونتحدث هنا عن بعض الرؤى التي سبقت أو صاحبت ميلاده الشريف. فالرؤيا الأولى: كانت للسيدة آمنة والدة النبي عليه السلام، والتي تقول: "يوم حملت به رأيت نورًا أضاء لي قصور الشام" ورأت قرب ولادته أن هاتفًا في المنام أتاها، وقال لها: "يا آمنة: لقد حملت بسيد الدنيا وما فيها، فإذا وضعتيه فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد".ثم تقول: لما وضعته نزل ساجداً لله. ولا عجب في ذلك، فهو الذي اختاره الله، وهو الذي اصطفاه الله، وهو الذي أدبه الله. وهو الذي قال لربيعة بن كعب –وكان ربيعة مُلازمًا له يصبُّ له الماء إذا أراد الوضوء– حينما وجده نائما ببابه في انتظاره قبل الفجر؛ ليَشرُف بصب الماء لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يتوضأ فقال له النبي: يا ربيعة اسأل أي شيء أطلب تحقيقه لك من الله. فلم يقل ربيعة أريد فيلا وسيارة فارهة وأموالاً طائلة لكنه قال عبارة خلدته في سمع الزمان، قال: "أتمنى مرافقتك في الجنة يا رسول الله". أي لا أريد إلا مرافقتك في الجنة يارسول الله.. النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها فقال له النبي (صلى الله عليه وسلم) : (أعني على نفسك بكثرة السجود) أي إذا أردت أن تكون مجاورًا لي في الجنة فأكثر من السجود. فما من مؤمن يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحطَّ عنه خطيئة وأعطاه بها حسنة. وها هو الحسن البصري -رضي الله عنه- الذي كان أسود الوجه – وفجأة رآه الناس أبيض الوجه والنور يتلألأ من وجهه، فقال له الناس: يا إمام: كنت أسود الوجه فما الذي بيض وجهك؟!، فقال لهم: طول القيام والسجود سرًّا بينى وبين الله في صلاة قيام الليل.. لقد تعلموا السجود من النبي الخالد الذي نزل من بطن أمه ساجدا، وكأنه يقدم التحية لله... * * * أما الرؤيا الثانية: فهي رؤيا عبد المطلب جد النبي (صلى الله عليه وسلم) يقول: "رأيت في منامي كأن سلسلة من فضة خرجت من ظهري وامتدت فيما بين السماء والأرض، ثم تحولت من المشرق إلى المغرب، ثم تحولت إلى شجرة أوراقها من نور". فما تأويل هذه الرؤيا؟! إن هذه السلسلة هي محمد عليه السلام، تمتد ما بين السماء والأرض؛ لأن الوحي سينزل عليه من السماء، وسيملأ الدنيا نورًا وبركة وتوحيدًا. ثم تتحول هذه السلسلة إلى شجرة أوراقها من نور.. إنها شجرة ليست كأشجار الدنيا؛ إنها شجرة أوراقها من نور وهل بعد نور الله نور. (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور: 35). إن هذه الشجرة هي القرآن الذي سيظل نوره يشع نورًا ونورًا ورحمة ولطفًا ومودة أمنًا واستقرارًا وهداية إلى يوم القيامة. فلقد كانت معجزات الأنبياء السابقين كلها معجزات حسية، محدودة بمكان وزمان، تألقت مرة واحدة كعود الثقاب (الكبريت) ثم انطفأت، ثم أصبحت خبرًا يصدقه مصدق ويكذبه مكذب. أما معجزة نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) فهي معجزة مستمرة لكل البشر في كل زمان ومكان، في كل عصر ومصر. إنها معجزة عقلية بيانية بلاغية دائمة الإشعاع تشع نورًا وهدى إلى يوم القيامة. لذلك يعمل أعداؤنا على إضعاف لغة القرآن اللغة العربية؛ حتى لا نشعر بجمال القرآن وإعجازه وجلاله وجماله، وإنه لمخطط جد خطير، يستدعي منا الانتباه والحذر ومواجهته. * * * أما الرؤيا الثالثة: فهي رؤيا كسرى ملك الفُرس الذي رأى يوم ميلاد سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) رؤيا عجيبة، فما هي: جلس كسرى بين كبار قومه وقال لهم: "لقد رأيت رؤيا عجيبة. فقالوا: ما هي؟، قال: "رأيت إبلا صعابًا، تقود خيلاً عربا، عبرت دجلة والفرات إلى أرضنا". إن هذه الرؤيا تدل على أن هذا المولود سيغير وجه الدنيا بإذن الله، ويغسلها من أرجاسها وأنجاسها وأذنابها وأدرانها ويطهرها. حينها أرسل كسرى رجاله يسألون، فجاءوا له قائلين: "لقد ولد نبي العرب". فهل تحققت رؤيا كسرى؟ نعم تحققت في عهد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فقد كوَّن جيشًا جرارًا لكي يفتح بلاد فارس الذين صمموا على أن يقضوا على كلمة لا إله إلا الله، واقتلاع شأفة الإسلام من جذورها...!! وكان على رأس جيش المسلمين سعد بن أبى وقاص (رضي الله عنه)، وكان عمر يوصى سعدًا، بقوله: "أوصيك ومن معك بتقوى الله، أنا لا أخشى على الجيش من عدوه؛ وإنما أخشى عليه من ذنوبه؛ لأننا إذا عصينا الله تساوينا مع العدو في معصية الله، وزاد علينا العدو في العدد والعدة والعتاد فهزمنا!!". وتحرك جيش المسلمين بقيادة سعد بن أبى وقاص، وكان عدده ثلاثين ألفًا، وكان جيش الفُرس يتكون من مائة وعشرين ألفًا. ولكن الإسلام لا يعبأ بالكثرة؛ إذا كان المسلمون يؤمنون بالواحد القهار ويتوكلون عليه.. واستمرت المعركة ثلاثة أيام، غربت بعدها دولة الفُرس إلى غير رجعة، وهكذا عبر سعد إلى قصر كسرى بالإبل الصعاب والخيل العراب، ودخل قصر كسرى، وكان يسمى القصر الأبيض. فماذا صنع سعد عندما دخل القصر؟ لم يملأه الغرور ولم يستهويه الشيطان، وإنما دخله حافي القدمين، وخرَّ ساجدًا لله، ثم تلا قوله وتعالى: (كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ. كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ ) (الدخان: 25-28). ثم أصدر سعد قرارًا بأن يؤذن المؤذن في جنبات القصر، ووقف المؤذن لأول مرة في قصر كسرى يقول: الله أكبر الله الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمد رسول الله، أشهد أن محمد رسول الله.. ولما نطق المؤذن بالشهادتين أطفئت نار الفُرس التي مضى عليها ألف عام لم تطفأ، أطفئت بقوة التوحيد. وهكذا فالرؤى في الإسلام لها مكانتها، ولها تعبيرها، ولها المعبرون والمفسرون، أمثال الإمام ابن سيرين الذي جاء له رجلان، فقال الأول: يا إمام لقد رأيت في المنام كأني أؤذن، فنظر ابن سيرين في وجهه، وقال له: إنك ستحج بيت الله. وجاءه الرجل الثاني وقال له: لقد رأيت في المنام كأني أؤذن، فنظر الإمام في وجهه، وقال له: أنت سارق فبادر بالتوبة إلى الله.. فقال الحاضرون عجبًا لك يا إمام!! الرجلان رأيا أنهما يؤذنان، فلماذا فسَّرت رؤيا أحدهما بحج بيت الله، وفسَّرت رؤيا الآخر بأنه سارق؟، فقال الإمام: نظرتُ إلى أحدهما فوجدت في وجهه علامة التقوى والصلاح، فتذكرت قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا....) ونظرتُ إلى الآخر فوجدت في وجهه شؤم المعصية وظلمة الذنوب، فتذكرت قوله تعالى: (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).