جاء الإسلام بالوسطية والتوازن في كل شيئ، ومن بينها قضية الحب، ذلك أن الحب في الإسلام حب متوازن يضم في إطاره الدنيا والآخرة كما هو شأنه في الأمور الأخرى العظيمة فهو مهم لبقاء الإنسان وسبب من أسباب سعادته وعنصر من عناصر الطمأنينة في قلبه، فالحب إكسير الحياة وبلسم جراحها، وسر حلاوتها ، وهو ذلك المعنى السامي الشريف الذي لا تقوم الحياة السعيدة إلا بمقومات مهمة، أحدها ذلك الحب. والقرآن الكريم يقوم على الحب في أوامره ونواهيه، وتشريعاته وقصصه، ودعوته للخير، والألفة والمحبة، وهو دستور يتخذه الإنسان إماماً ومرشداً ليحيا حياة حرة كريمة لا يشوبها حقد، ولا يمزقها بغض أو تعبث بها الأهواء. ولفظ الحب من الألفاظ كثيرة الدوران في كتاب الله تعالى،وهو أيضاً من الألفاظ التي وردت كثيراً في أحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فضلا عن الألفاظ الأخرى التي تفيد دلالات الحب. وهو في القرآن والسنة نوعان: حب الله تعالى للعباد، وحب العبد لله تعالى. ومصدر هذين النوعين من المحبة في قوله تعالى (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (المائدة:54).فالحب والرضا المتبادل بين الصلة الحقيقية بين العبد وربه، ومنه تشتق كافة التعاملات الإنسانية التي تتخذ القرآن منهجاً للتعامل بين الأفراد والجماعات. والحب، والمحبة معنى نفسي روحي مغروس في أعماق النفس البشرية مخلوق معها، وجزء من تركيبتها الوجدانية العاطفية، لا يستغني الإنسان عنه، كذلك هو مهم للتربية في الأسرة والمجتمع؛ فما أروع أن تكون التربية الإسلامية تربية بالحب، فهذا نبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) احتضن برسالته الإنسانية كلها وذلك من خلال الحب، وجاء نبياً للأمة ورسولاً لله رب العالمين الذي إذا أحب عبداً نشر محبته بين ملائكته وخلقه. وعلي كثرة الأعباء، وتعدد المهام الجسام، لرسولنا الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم) "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا" (الأحزاب: 45-46) نجد اهتمامه الكبير (صلى الله عليه وسلم)، فهو خيرُ من دعا، وخير من رَبي، وخير من أدب وعلّم. وقد احتوى القرآن والسنة أسمى وأروع أمثلة الحب في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ووردت هذه المفردة (الحب) على أكثر من معنى؛ فقد جاء في الكتاب والسنة أنّ الله تعالى يحب أفعالاً معينة، كما يحب كلاماً معيناً، ويحبّ بعض خلقه الذين اتصفوا بصفات خاصة بيّنها. وما أخبرنا بذلك إلا لكي نبادر إلى الاتصاف بما يحبّه من الأخلاق، والقيام بالأعمال التي يحبها، والإكثار من ذكر الكلام الذي يحبه، وبذلك يحبنا سبحانه وتعالى. (إنّ الله يحبُّ المتَّقين) (التوبة: 4)، (والله يحبُّ المحسنين) (آل عمران: 146)، (إنَّ الله يحبُّ التَّوَّابين ويحبُّ المتطهّرين) (البقرة: 222)، (والله يحبُّ الصَّابرين) (آل عمران: 146)،(إنَّ الله يحبُّ المقسطين) (المائدة: 42) (إنَّ الله يحبُّ المتوكلين) (آل عمران: 159)،(إنَّ الله يحبُّ الَّذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنَّهم بنيانٌ مَّرصوصٌ) (الصف: 4).وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن، سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): (أَحبُّ الكلام إلى الله أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضُرّك بأيهن بدأت). وقال (صلى الله عليه وسلم) لأشج بن عبد القيس: (إنّ فيك خَصلتين يُحبهما الله: الحلمُ، والأناةُ). ولقد فطر الله (عز وجل) الوالدين على محبة الأبناء، وجعلهم ثمرة الفؤاد وقرة العين وبهجة الروح، بل إن المولى عز وجل مدح أولياءه في كتابه العزيز بأنهم يدعون الله ويتضرعون إليه أن يقر أعينهم بالولد الصالح، كما في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) (الفرقان:74). فهذه المحبة مصدر الأمن والاستواء النفسي للأبناء، كما أنها القاعدة الصلبة لبناء شخصيتهم على الاستقامة والصلاح والتفاعل الإيجابي مع المجتمع من حولهم، ولا يُتصور تحقق هذه الغايات إذا كانت المحبة حبيسة داخل صدور الآباء والأمهات، لا يظهرونها للأبناء ولا يعبّرون عنها قولا أو فعلا، مما يضعف جسور الارتباط بين الابن وأسرته، ويفوت على الطرفين الاستمتاع بهذه العاطفة الرائعة. ولقد احتوى القرآن الكريم على الصور الجينية للحياة الأسرية السليمة. قال تعالى في سورة النساء (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء)(النساء:1). والتعبير ب "نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ" تأكيد من الباري تعالى على الارتقاء بمشاعر الحب حتى ينصهر كل واحد منهما بالآخر. فيصبح كلا الزوجين نفساً واحدة، يهم الواحد ما يهم الآخر، يفرحه ما يفرح الآخر ويشجيه ما يشجي الآخر. وهذه قصة يعقوب (عليه السلام) الذي أشجاه غياب ابنه يوسف (عليه السلام)؛ إشارة ثانية إلى حب نبيل يعيشه الوالد تجاه ولده الذي اختصه وأخاه بالمزيد من الحب كما وأنه كان يحب سائر أبنائه، فلم يثنه طول البعاد ولم يفقده الأمل؛ فجذوة الحب الأبوي المتأججة في قلب يعقوب (عليه السلام) أضاءت بصره ثانية حين أتاه البشير بقميص ولده، قال تعالى:(فلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا)(يوسف:96). كذلك نستشرف عاطفة الأمومة في قصة أم موسى (عليه السلام) حين جاء الأمر الإلهي أن تضع وليدها في صندوق وتلقي به في اليم إنقاذاً لحياته. بعدها يثيبها الله ويعيد إليها ولدها ليكون لها مصدر أنس والسرور، قال تعالى:(فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ)(طه:40). أما فيما يتعلق بالأبناء فالقرآن الكريم ينص على حب الوالدين ويدعو الأبناء إلى حسن معاملتهما وتوفير كامل الاحترام والأمن لهما حتي ولو كانا على غير دين الإسلام، قال تعالى:(وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)(الإسراء:24). أما حب الأخوة بعضهم لبعض فخصص له القرآن الكريم حيزاً كبيراً في حياة الإنسان؛ حيث دعا إليه طمأنة لقلوب الأخوة وشد أواصر المحبة وجعلها الرابط الأساسي في المجتمع كله.فلما بُعث الله موسى (عليه السلام) وناداه من جانب الطور الأيمن آثر أخاه هارون في كل الخير وطلب من الله أن يكون شريكاً له فيما يقوم به؛ قال تعالى:(وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) (طه:32). فالأسرة حسب المفهوم القرآني حصيلة اجتماعية يرسم أطرها الدين الحنيف ويلون ملامحها بألوان المحبة والرحمة،مما يخفف عنها الضغط الذي ربما تتعرض له مع تقلبات الأحوال والظروف فيكون الحب بما ينطوي عليه من مشاعر التراحم والتواد؛ السكن والأمن والأمان، الحضن الدافئ الذي يلوذ به كل فرد من أفراد الأسرة، فيعم الأمن والسلام على المجتمع بأسره؛ في ظل هذه المشاعر الربانية الفياضة.