التسجيلات الصوتية التي تذاع هذه الأيام منسوبة إلى نشطاء ثورة يناير البارزين لا تحمل أي شيء لافت ولا معلومات استثنائية ، دردشة لها طابع فكاهي انتشر كثيرا قبل حوالي ثلاث سنوات في أعقاب هجوم المتظاهرين على مقرات أمن الدولة في عموم مصر ، وأذكر أن أول مقر لأمن الدولة تم اقتحامه كان بالإسماعيلية حيث قتل حوالي ثمانية من المتظاهرين الذين أصروا على الاقتحام واستولى آلاف المتظاهرين على ملفات ووثائق بالجهاز قبل أن يضرموا النيران فيه ، كانت حالة غضب هستيرية من تراكم القمع والإرهاب والتعذيب الذي تعرض له آلاف المواطنين على يد هذا الجهاز الخطير على مدار سنوات طويلة ، وأذكر حينها أن بعض هذه الوثائق أرسلها متظاهرون لنا في موقع المصريون ، وكانت خطيرة للغاية ، لأنها كشفت عن أن جهاز أمن الدولة لم يكن يتجسس على الأفراد والمعارضين فقط ، بل كان يتجسس على الأجهزة الأمنية الأخرى بما فيها الجهات السيادية ، وقد نشرنا ذلك في حينه ، فاتصلت بنا جهة أمنية سيادية رفيعة وطلبت منا تلك الوثائق تحديدا المتعلقة بتجسس جهاز أمن الدولة على الجيش والمخابرات الحربية ، وأرسلوا لنا مندوبا بالفعل سلمناه الوثائق بعد التحقق من شخصيته ، وبعد ذلك بعدة أيام تمت عملية استباحة جميع مقرات جهاز أمن الدولة في مصر بالكامل تقريبا بما فيها المقر الرئيسي في مدينة نصر . ليس هذا هو المهم الآن ، ولا مضمون تلك التسريبات التي تنشر الآن هو المهم ، وإنما الأكثر خطورة هو ما كشفت عنه تلك التسريبات من أن جهاز أمن الدولة ظل يعمل حتى بعد عملية اقتحام مقراته والقبض على بعض قياداته وتقديمهم للمحاكمة وفرار الآخرين إلى الإمارات التي وفرت ملاذا آمنا للمئات منهم ، وتكشف تلك الحقيقة عن أن الحديث الذي روجته السلطات القائمة وقتها عن تجميد عمل الجهاز وتفكيكه ونحو ذلك لم يكن سوى خداع ، لأن تلك التسجيلات التي لا يشك أي عاقل في أن أمن الدولة هو الذي قام بها وهو الذي يسربها الآن ، واضح أنها تمت في أعقاب عملية اقتحام مقراته وهي موجة ثورية تمت بعد الاطاحة بمبارك ونظامه بعدة أسابيع ، وهو الأمر الذي يحمل أكثر من دلالة ، الأولى أن الجهاز كانت سلطته ووصايته ورعبه ما زالت قائمة على مؤسسات الدولة وقتها بدليل إخضاعه لشركات الاتصالات والقيام بتلك العمليات غير القانونية وغير الأخلاقية معا ، الدلالة الثانية التي تكشف عنها تلك التسريبات ، أن جهاز أمن الدولة منذ اليوم الأول لانتصار ثورة يناير وهو يرتب أموره للثورة المضادة ، ويجهز ملفاته ويمارس من النشاطات التجسسية على المعارضين وبشكل خاص رموز ثورة يناير انتظارا لليوم الذي يمكن أن يفجرها في وجوههم لإسقاط ثورة يناير وتشويه رموزها حسبتما تصوروا ، الدلالة الثالثة أن التسريبات تكشف عن أن مصر ما زالت حتى الآن تدار بتوجيه وهيمنة المؤسسة الأمنية وأن الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ما زالت رهينة لاستباحة تلك الأجهزة لدرجة أنهم يجاهرون بتلك الأعمال غير القانونية دون أي قلق من عواقبها ، ولسان حالهم يقول : كل شيء تحت السيطرة الآن ، الدلالة الرابعة والأخيرة وهي التي لم تكن في حسبان من سربوا تلك التسجيلات ، أنها تعطي حجة دامغة لأنصار الرئيس المعزول محمد مرسي بأن "الدولة العميقة" لم تكن تعمل طوال المرحلة الماضية ضد الإخوان وحدهم ، وإنما كانت تعمل ضد ثورة يناير بالأساس ، وتريد أن تحطم كل قوة أو شخصية لها رمزية في تلك الثورة ، وهذه الحقيقة التي تكشفها التسريبات يمكن أن تضغط نفسيا وأخلاقيا على كل شركاء ثورة يناير من أجل إعادة النظر في ما حدث في الثلاثين من يونيو 2013 وما بعدها ، سواء على مستوى توصيف الحدث أو على مستوى تحديد الجهات التي رتبت له وحساباتها في تلك العملية ، أو على مستوى الإحساس بأن فصائل الثورة تعرضت للغدر والخداع ، لأن غضبها من الإخوان وأخطائهم وممارساتهم الاستهبالية في العام الذي حكموا فيه ، تم توظيفها واستثمارها من قبل جهات أمنية وغيرها من أجل الإجهاز على مشروع ثورة يناير نفسه ، بما يعني أن المشروع الأساس لموجة 30 يونيو كان صناعة ثورة مضادة لثورة يناير ، وليس مجرد موجة ثورية لتصحيح الانحراف الذي تولد عن تجربة الإخوان . لا أشك في أن الجهاز الأمني المرتبك حسبها غلط هذه المرة ، وربما استعجل اللعبة ورمى أوراقه مبكرا فكشف كل شيء ، والمؤكد أن تلك التسريبات ستأتي بنتائج عكسية تماما لما هدفت إليه الجهة الأمنية التي سربتها ، والغريب في شأن ثورة يناير ، رغم عفوية نشطائها التي توقعهم في أخطاء كثيرة ، أنها تنهض كل مرة من كبوتها وتتعافى وتتجاوز الفخاخ المنصوبة لها ، وتستعيد حيويتها بفضل أخطاء خصومها وغشومية أجهزة الثورة المضادة .