يتساءل العديد من الغيورين والمتربصين معاً: هل لا يزال لأطروحة حوار الحضارات إمكانية في الاستمرار والتواصل بعد الحدث الدانمركي سيئ السمعة، رغم الجهود التي بذلها الطرف المسلم الممثَّل باتجاهه الوسطي العريض وسواده الأعظم الهادر بمختلف مدارسه وتوصيفاته ؟ ومن خلال التتبع لأبرز محطات التاريخ ومسارات أحداثه بوسعنا إدراك أن الأزمات والحروب التي نشبت بين المسلمين والنصارى هي في حقيقتها بين الصليبية الاستعمارية التي أعلنتها الفرنجة متدثرة بالنصرانية وبين المسلمين في دفاعهم عن النفس والدين وحريّات المستضعفين من أبناء الديانات الأخرى بالدرجة الأساس. ومن ثم لا يجوز تصوير الأمر على أنه صراع أديان أو حضارات منبثقة عن الأديان . ومع أن الإساءة الدانمركية المشينة إلى النبي محمد – صلى الله عليه وسلّم- ليست أمرا جديدا في سياق الصراع الممتد بين المستضعفين وقوى الاستخفاف والاستكبار والطغيان-ولا أقول بين الإسلام وغيره من الأديان- تحت شعارات وعناوين مختلفة؛ إلا أن حجم الفجاجة والاستخفاف والإصرار في الإساءة الدانمركية، ومن آزرها، ودفع بها نحو التصعيد، بغية بلوغ ذروة الأزمة، ومن ثم إعلان حالة القطيعة الحضارية حقيقة أو حكماً بين المسلمين والغرب على وجه الخصوص والعالم الآخر على نحو أعم؛ قد يدفع نحو استنتاج خاطئ يلصقه بالمسيحية بكل طوائفها وأطيافها . لكن تظل الحقيقة شاهدة أن الغرب العلماني أو اللائكي اللاديني -وليس المسيحي النصراني- هو الذي يقود السباق نحو الكارثة. غير أنه ربّ معترض لا يرى في الأمر سوى استمرار لطغيان الكنيسة وعدوانيتها، ومن ثم فإن هذا الاستنتاج الذي تتبناه هذه المقالة يبدو غير منسجم مع ما يُعرف باليمين المسيحي وأبرز رموزه السياسية. وننسى في غمرة ردّة الفعل غير الواعية أن كل دين وملة وفكر يحوي الغلاة والمعتدلين، وتظل العبرة بسواده الأعظم . والأمر الجدير بالتأكيد عليه أن تدثر بعض الرموز السياسية في الغرب بلبوس المسيحية لا يجوز أن يعمينا عن إدراك الحقيقة التي يسعى أولئك الساسة للتلبيس عليها، حين يتظاهرون بصورة رجل الدين، ويجدون لهم أنصارا من القساوسة، ولكنهم لا يمثِّلون الموقف العام للنصرانية في حقيقة الأمر وجوهره . ولِمَ لا نضع أنفسنا موضع الفرد الغربي ضحية التضليل الإعلامي، حين يُبرز شخصية تنتمي إلى العروبة والإسلام من حيث البيئة والواقع، ولكنها أساءت إليهما أيما إساءة حين كانت في الحكم والسلطة ، كالطاغية (صدام حسين) – مثلا- إذ يظهر في أكثر من مناسبة وموقف صادحاً بالآيات القرآنية، متحدّثاً باسم الإسلام، رافعاً المصحف الشريف، فماذا يُنتظر من الرأي العام الغربي سوى الاعتقاد أن الرجل ومن على شاكلته لا يخرج عن القوى الأصولية والمنظمات (الجهادية)، على حين يعلم كل مطلع ومتابع تاريخ حزب البعث وعداءه الاستئصالي للحركة الإسلامية سواء في العراق أم في سوريا . ولتأكيد إمكان تواصل حوار الحضارات والأديان رغم العواصف والزوابع العاتية أورد الشواهد التالية: - لقد أكّد المؤتمرون المسيحيون في مؤتمر الأديان المنعقد بجاكرتا في أواخر شهر محرّم من العام الحالي 1427ه الموافق فبراير 2006م عن إدانتهم الصريحة للإساءة المشينة الصادرة عن الصحيفة الدانمركية ومن يؤازرها. - وحسب موقع إسلام أون لاين في 152 2006م فإن موقف الكثير من الكنائس في شتى أنحاء العالم كان الإدانة والرفض للإساءة إلى المقدّسات الدينية بوجه عام ، معتبرين أن تلك الرسوم الدانمركية المشينة وجّهت للمسيحيين وليس للمسلمين فقط. وإذا كانت كنائس أوروبا أعلنت رفضها للإساة المشينة فإن (الفاتيكان) وهو الناطق الرسمي باسم جميع المسيحيين الكاثوليك في العالم والمرجع الديني لهم دعا إلى الاحترام المتبادل ، وعدم إهانة الرموز الدينية . وهذا ما أكّد عليه( جواكين فافرو فالز) الناطق باسم الفاتيكان. وقال": إن حق الحرية لا يعني حق تحقير مشاعر المؤمنين الدينية". وقال نحو ذلك الكاردينال الكاثوليكي ( أتشيلي سلفيستيريني) في حوار مع صحيفة (كوريراد يلاسير) الإيطالية في 322006م. - أما المجلس الأوروبي لزعماء الأديان فقد عبّر رسمياً عن استيائه من سب النبي محمد- صلى الله عليه ، وسلّم- وأصدر بياناً دعا فيه إلى عدم إساءة استخدام حرّية التعبير. - وقد دعا مجلس الكنائس العالمي في 1422006م إلى بذل جهود مشتركة بين المسيحيين والمسلمين لإطفاء الحريق الذي أشعله نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد – صلى الله عليه وسلّم-. وكذلك فعلت الكنائس الشرقية مثل الكنيسة الأرثوذكسية بمصر حين أعلنت استنكارها الشديد للإساءة إلى الرسول– صلى الله عليه وسلّم-. وقد ورد ذلك على لسان( صليب متّى ساويرس) عضو المجلس الأرثوذكسي، وكذا (يوحنا فلتة) نائب بطريرك الكاثوليك في مصر . - والأمر ذاته صدر عن كنائس فلسطين ولبنان . - وفي تركيا أصدر ممثلو كنائس رئيسة هناك بياناً مشتركاً أدانوا فيه الرسوم المشينة. وإذا كان ذلك هو رأي الطرف الآخر فإن في سياق نتائج مؤتمر نصرة النبي – صلى الله عليه وسلّم – الذي عُقد في البحرين في 22-2321427ه الموافق 22-2332006م ما يؤكد أن الموقف نفسه هو موقف المسلمين باتجاههم العام الوسطي من الآخر المسيحي إذ ورد في نتائج ذلك المؤتمر ما يلي :" يؤكد المؤتمر أن علاقة المسلمين بالغرب لا ينبغي أن تكون قائمة على الصراع ، بل على العدل والاحترام المتبادل، وحفظ الحقوق، فليس المسلمون دعاة صراع ولا عنصرية، ولكنهم يدافعون عن حقوقهم، ويصرّون على ضرورة احترامهم، واحترام مقدّساتهم، منطلقين من قوله –تعالى- :{لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولّوهم، ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون}( الممتحنة:)". نقول كل ما تقدّم من منطلق تربيتنا القرآنية التي يلخّصها قول الحق –تعالى-:{ ليسو سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون.....} الآيات: 113-115). [email protected]