قبل أن يشرد ذهن القارئ الكريم بعيدًا أؤكد له أني سأتكلم عن بهائم حقيقية، تنتمي إلى جنس الحيوانات، وكلامي مباشر دون تورية ولا تشبيه ولا أية صورة من الصور البلاغية والبيانية؛ حيث تعود بي الذاكرة لأكثر من ثلاثين عامًا كنت أعيش في قريتي قبل أن أنتقل إلى المدينة، وفي البيوت الريفية غالبا تكون الزرائب الخاصة بالبهائم جزءًا من المنزل، ولها باب خاص على الشارع، ويرتبط الفلاحون بمواشيهم التي كانوا غالبا يحتفظون بها لسنوات في ذلك العهد البعيد، ولقد رأيت من أحوال تلك البهائم ما هو جدير بكتابته وإعادة قراءته. كان إذا مات أحد أفراد الأسرة انشغلوا بميتهم عن بهائمهم، فكان الجيران يقومون بالواجب فيضعون الطعام لبهائم الميت، ويُقسم الكثيرون أن البهائم كانت تمتنع عن الأكل في ذلك اليوم حزنا على موت صاحبها. ولا أنسى ما حدث في إحدى أسر القرية حيث كانت لهم جاموسة، اقتنوها لسنوات طويلة فارتبطت بهم وارتبطوا بها، وكانت تُنْتج كل عام وليدا، وقد اعتاد رب الأسرة أن يربي أحد العجول ليبيعه، وأن يذبح العجل الذي يليه في العام التالي طعامًا لبيته وصدقة على جيرانه، وهكذا كل عام. وكان من أخلاق تلك الأسرة ألا تذبح العجل أمام أمه، بل يسحبونه من جوارها في هدوء، وتظل مربوطة في مكانها، ثم يذبحونه في حجرة مجاورة للزريبة دون أن تشهد هذا المشهد، وكانوا يحرصون على ذلك كل الحرص، إلا في ذلك اليوم الحزين؛ حيث خلعت الجاموسة الوتد المربوطة فيه، وانطلقت تبحث عن ابنها، ثم رأته مذبوحا معلقا في سقف الحجرة والرجال حوله يُقَطِّعونه، وسادت لحظة صمت وذهول من الجميع لدقيقة، فالجاموسة واقفة على الباب تنظر لولدها والدموع تنزل من عينيها، وقد رأى الرجال دموعها، فأطرقوا رءوسهم صامتين لا يدرون ماذا يفعلون، حتى أنهت الجاموسة الموقف بعد أن ودعت ولدها وملأت عينيها من لحمه المتقطع بين أيديهم، فاستدارت منكسرة، وعادت إلى مرقدها. رأى الجميع هذا المشهد النساء والأطفال والرجال.. أما النساء فانتحت كل واحدة منهن ركنًا في المنزل وأخذت تبكي بحرارة تعاطفًا مع الجاموسة في نكبتها، وأما الأطفال فوقفوا على باب الزريبة ينظرون إلى جاموستهم بعطف وكأنهم يعزونها، وأما الرجال فتركوا العجل لأكثرهم جلدا وتحملا ليكمل عمله فيه.. أما ما اشترك فيه الجميع أنهم لم يستطيعوا أن يقضموا قطعة من لحم هذا العجل فتصدقوا به كله على الجيران. وبعد أيام قرر كبير العائلة أن يبيع تلك الجاموسة، وباعها بالفعل، فلم يعد بمقدورهم أن تعيش معهم في منزل واحد، وتضاربت الأقوال بين أهل القرية في تفسير سبب بيعها، فقال البعض: لقد أرادوا أن يبعدوها عن أعينهم حتى لا تذكرهم بهذا الموقف العصيب، بينما رأى آخرون أنهم خافوا من أن تحمل الضغينة في قلبها فتنتقم يوما لوليدها فترفس أحد أبنائهم في مقتل. وكان لأحد أهل القرية جمل، وكان يعيش معه لا في منزل واحد بل في حجرة واحدة واسعة، وكان الجمل له بمثابة الصديق والعائل، فكان يعيش على ما يجلبه ذلك الجمل مقابل حمل الغلال من الحقول إلى الأجران كل موسم حصاد، وذات يوم أناخ جمله ليحمله بعيدان القمح، وبعد أن أتم حمله استنهضه فلم ينهض، وحرن الجمل لسر لا يعلمه إلا الله، فلم يشفق عليه صاحبه، وبدأ يضربه بالعصا الخيزران، وأوجعه ضربا غير مبال بقيظ الحر ولا ثقل الحمل الذي ينبغي أن ينهض به، وظل يضربه حتى نهض الجمل إشفاقا على نفسه من لهيب العصا، وبينما الجمَّال صاحبه يقف خلفه، رأى جميع الحاضرين ما لم يخطر ببالهم؛ لقد رفع الجمل إحدى رجليه الخلفيتين وألصق خفها بصاحبه ثم دفعه بهدوء، وكأنه يعاتبه ويقول له برفق: (لقد أوجعتني) ولو شاء الجمل لرفسه رفسة تقضي عليه..! فما كان من الجمَّال إلا أن بكى ندما على ما فعله، وانهال على جمله يقبل قدميه الأماميتين، فَرَغَا الجمل رُغاءَ الرِّضا. هذا جانب من شأن البهائم؛ فما بال الذين يستهينون بدماء أبنائنا وأهالينا المصريين من العسكريين والشرطة والمدنيين..؟! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.