ها هو التاريخ يعيد نفسه ومن كان ينظر إلي العالم العربي في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية يجده نفس العالم العربي بعد مرور أكثر من نصف قرن علي هذه الأحداث , فإن التشرذم و التفرق و المصالح الشخصية للزعمات العربية مازالت تتصدر الأحداث و هي التي تسير تحركات القادة العرب و من ينظر اليوم إلي الأحوال السياسية في جنوب السودان يجدها تشبه إلى حد بعيد الأجواء التي سادت فلسطين أيام الانتداب البريطاني ، حيث تتهيأ القوى السياسية هناك لإقامة دولة إسرائيل رقم اثنين جنوب العالم العربي , مع الفرق في القوة التي كانت تقف خلف إسرائيل فبالأمس كانت بريطانيا و اليوم أمريكا و الهدف واحد هوتفتيت العالم الإسلامي و إقامة كيانات لقيطة لا تمت للعالم العربي و الإسلامي بصلة . بالأمس وقف العالم الأوربي خلف إسرائيل لكي تتواجد بالقوة و بالمؤامرات لكي تصنع كياناً شيطاناَ غريباَ في قلب العالم العربي و اليوم تقف إسرائيل و معها العالم الأوربي و أمريكا لكي تصنع كياناً جديداً , دولة غير عربية و تنطق بغير لغاته . الاستراتيجية الإسرائيلية في جنوب السودان أو الاستراتيجية الاسرائيلية الاميركية في جنوب السودان لا تتعلق فقط بمصالح اقتصادية ضيقة لا تسمن ولا تغني من جوع على رغم الوجود الكبير للموارد الطبيعية في هذه المنطقة ، انما الامر يتعلق بالاساس بالمصالح السياسية والأمنية الكبرى لاسرائيل لاسيما في مواجهة احتمال عودة مصر الى الاضطلاع بدورها العربي الفعلي. كانت تصريحات الرئيس الأمريكي إن إستفتاء الجنوب السوادني علي راس إهتمامات إدارته , و خلال الفترة السابقة و بعد أنتهاء زيارته إلي السوادن صرح السيناتور جون كيري؛ رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس الأمريكي بإمكانية رفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب مبكراً في يوليو 2011م؛ الموعد المحدد لانفصال الجنوب إذا أجرت الخرطوم الاستفتاءين وقبلت بنتيجتيهما. هذه التصريحات الامريكية الداعمة لانفصال جنوب السودان عن شماله تدل على ان قرار الانفصال قد تم في واشنطن حتى قبل ان يقول الجنوبيين قرارهم,ويبدوا ان الامريكان مستعدين لفعل اي شيء من اجل اتمام هذا الانفصال,وما يحدث هذه الايام من اثارة للمشاكل ومن هجوم اعلامي امريكي مفاجيء على سوريا ولبنان يهدف في الاصل الى لفت انظار العرب الى مكان اخرغير جنوب السودان الى حين اتمام تمرير عملية الانفصال...والايام القادمة ستكون حبلى بالمشاكل العربية لنفس السبب. لقد إجتمع يوم الجمعة الموافق 24/9/2010 بمدينة نيويورك رؤساء ست دول هي: أمريكا، رواندا، إثيوبيا،كينيا، اوغندا، الجابون، بالإضافة الى نائب رئيس وزراء بريطانيا،ووزراء خارجية كل من فرنسا، ألمانيا، النرويج، الهند، مصر، البرازيل، اليابان وكندا، و بحضور النائب الأول و نائب رئيس جمهورية السودان، و أمين عام الأممالمتحدة. الهدف المعلن للإجتماع هو التداول فيما بين هذه الأطراف فى الشأن السوداني، بإعتبارها قد شاركت ، بصورة أو بأخري فى رعاية، أو ضمان تنفيذ إتفاقية نيفاشا التي وقعت بين حكومة السودان و الحركة الشعبية لتحرير السودان فى يناير من عام 2005. لكن نتائج الإجتماع الفعلية هي تهيئة جميع الأطراف ذات العلاقة، و على جميع المستويات، الوطنية و الإقليمية و الدولية، و تبشيرها بقيام دولتين جديدتين، على الأقل حتي وقتنا الراهن، فيما كان يعرف، حتي التاسع من يناير 2011، بجمهورية السودان!! جوهر الخطابات التي ألقيت فى هذا اللقاء، و بالأخص خطابي الرئيس الأمريكي و النائب الأول لرئيس الجمهورية‘ تمثلت فى التأكيد على قيام الإستفتاء فى ميعاده المحدد ، و عدم تأجيله ولو ليوم واحد، و الويل و الثبور لكل من تسول له نفسه (بالطبع المقصود هو المؤتمر الوطني) التفكير، مجرد التفكير، في عدم الإلتزام بهذا التاريخ المقدس، ناهيك عن وضع العراقيل التى ربما أدت الى تأجيله . إن الادارة الاميركية تقدم دعما ماليا سنويا يقدر بمليار دولار للجنوب السوداني ، وتصرف هذه المبالغ الضخمة في إنشاء البنية التحتية وتدريب رجال الأمن وانشاء ما وصفته بأنه جيش قادر على حماية المنطقة. وتفيد تقارير إعلامية أميركية أن وزارة الخارجية الأميركية في أعقاب التوصل لاتفاق السلام الشامل منحت إحدى الشركات الأميركية الخاصة عقدا للقيام بتأهيل متمردي جنوب السودان وتحويلهم لقوة عسكرية محترفة.واختارت الحكومة الأميركية شركة «دين كورب» التي فازت بقيمة العقد المبدئي البالغة 40 مليون دولار للقيام بهذه المهمة . وقد قدمت واشنطن أكثر من ستة مليارات دولار للسودان منذ توقيع اتفاقية السلام الشامل في العام 2005 من أجل دعم استفتاء انفصال جنوب السودان. ليس هذا فحسب ، بل ان حكومة جنوب السودان في الولاياتالمتحدة ، تتمثل ببعثة تشكل سفارة فعلية، ذلك ان المهمات التي تتولاها هي المهمات التي تقوم بها سفارات الدول الاخرى في العاصمة الاميركية. من هنا كان لتصريحات رئيس بعثة حكومة جنوب السودان في واشنطن ايزكيل لول جاتكوث التي اكد فيها ان دولته المقبلة ستقيم علاقات مع اسرائيل لها وقعها الخاص . ان انفصال جنوب السودان يجد مساندة قوية من اليمين المسيحي المتصهين في الولاياتالمتحدة، ومن اللوبي الصهيوني ولوبي الأميركيين من أصل أفريقي في الولاياتالمتحدة لإقامة دولة علمانية تحدّ من المد العربي والإسلامي إلى داخل القارة الإفريقية وفي حين جهر مبعوث جنوب السودان في واشنطن علنا بحتمية العلاقة مع اسرائيل، كان يجري سرا توثيق العلاقة في جوبا حيث اكدت مصادر متطابقة حصول لقاءات بعيدا عن الاعلام بين مسؤولين من وزارة الاستثمار في حكومة جنوب السودان ومسؤولين حكوميين إسرائيليين بهدف الاتفاق على فتح مطار جوبا أمام طيران "العال" الإسرائيلي ابتداءً من مطلع العام المقبل. وقد أكدت كثير من المصادر ذاتها أن مجموعة "شالوم المتحدة"، التي افتتحت شركة صيرفة في جوبا مطلع العام الحالي، توسّعت أنشطتها وتولت اقامة فندق خمس نجوم في عاصمة الجنوب. هذه الاخبار التي اكدت أن شركة شالوم المتحدة هي شركة إسرائيلية تنفي جريدة الاهرام القاهرية هذه المعلومات تمشياً مع سياسة النظام المصري الذي يدعم الإنفصال طمعا في رضا أمريكا عن مشروع التوريث المزمع حدوثه في مصر . بينما تؤكد صحيفة العرب اليوم" ان من وصفتهم ب"الجالية الإسرائيلية في جوبا" تسيطر على قطاع الفنادق الذي يُعدّ من أكثر القطاعات ربحية في جنوب السودان، وبحسب الخبراء فإن معدلات الربحية في قطاع الفنادق في الجنوب يُعد الأعلى عالميا. واكدت كثير من المصادر إلى أن جهاز المخابرات الاسرائيلي "الموساد" ينشط في تمويل أسلحة وعمليات تدريب لحركات دارفور المسلحة للتمرّد ضد الدولة السودانية، خصوصا بعد احتضان حكومة الجنوب زعماء فصائل حركات دارفور الموقّعة على اتفاق أبوجا للسلام: فصيل مني أركو مناوي قائد حركة تحرير السودان، وأبوالقاسم إمام قائد حركة تحرير "السلام الأم"، وكذلك قوات زعيم حركة العدل والمساواة بقيادة الدكتور خليل إبراهيم . إن هذه الإستراتيجية التي تتبناها إسرائيل الآن صاغها في البدايات ديفيد بن غوريون وأوري لوبراني وانطلاقا منها بدأت إسرائيل بالتحرك لدعم كل الحركات الانفصالية التي تهدد الحكومة المركزية في الشمال بعدما فشلت في التغلغل في صفوف الزعامات في شمال السودان التي كانت اكثر فاعلية في الحياة السياسية السودانية. جاء هذا في الدراسة التي اعدها البريغادير الاسرائيلي المتقاعد موشيه فيرجي لمركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة تل ابيب تحت عنوان: «إسرائيل وحركة تحرير جنوب السودان، نقطة البداية ومرحلة الانطلاق»، لتلقي الضوء على بعض الاهداف الاسرائيلية في السودان . ويؤكد فيرجي ان الدعم الإسرائيلي هو الذي مكن حركة التمرد من الاستيلاء على مدن رئيسية في جنوب السودان، وكانت إسرائيل تمد المتمردين بالسلاح كما كانت تقدم الاستشارات والتدريب من خلال خبرائها المقيمين في إثيوبيا. فقد جعلت إسرائيل من إثيوبيا مرتكزا لها وقد تولى الاتصالات مع متمردي جنوب السودان المدير السابق لوزارة الخارجية الإسرائيلية ديفيد كمحي. وحددت إسرائيل خمس مراحل لتنفيذ استراتيجيتها في السودان، المرحلة الأولى : بدأت في مرحلة الخمسينيات حيث كانت إسرائيل تركز على تقديم معونات إنسانية للنازحين عبر الحدود السودانية إلى إثيوبيا، وكانت إسرائيل تحاول من خلال تقديم مساعداتها في هذه المرحلة تعزير الاختلافات القبلية والعرقية وتوسيع شقة التنافر بين الشمال والجنوب ودعم كل الاتجاهات الانفصالية، وقد أوفدت الكولونيل باروخ بار سفيرا وعددا من أفراد الاستخبارات الإسرائيلية للعمل من خلال أوغندا لدعم هذا الهدف. وفي المرحلة الثانية : التي بدأت خلال الستينيات، بدأت إسرائيل في دعم قوات حركة التمرد الجنوبية الاولى «الأنيانيا» وتدريبها وخصوصا زعيم الحركة انذاك جون لاقو الذي مكث في اسرائيل ستة شهور، وخلال هذه المرحلة تبلورت رؤية إسرائيل التي ترى أن شغل السودان في مثل هذا الواقع لن يترك له أي مجال لدعم مصر في أي عمل مشترك ضد إسرائيل. وتشير الدراسة الى إن هذه السياسة وجدت قبولا من بعض العناصر في جنوب السودان وذلك ما شجع إسرائيل على أن تبعث بعناصرها إلى الجنوب مباشرة للعمل تحت ستار تقديم الدعم الإنساني. وبدأت المرحلة الثالثة : في منتصف الستينيات واستمرت حتى مرحلة السبعينيات وخلالها قدمت إسرائيل أسلحة إلى متمردي الجنوب من خلال وسيط يسمى غابي شقيق وهي أسلحة غنمتها إسرائيل خلال حرب العام 1967. أما المرحلة الرابعة : فقد استمرت طوال عقد الثمانينيات وعادت إسرائيل إلى المشهد السوداني من جديد بعد إخفاق اتفاقات أديس أبابا وظهور حركة تمرد جديدة بقيادة الكولونيل جون قرنق، وقد وجدت إسرائيل دعما غير مسبوق من إثيوبيا . كما أن حركة التمرد اكتسبت زخما جديدا بعد ظهور النفط في جنوب السودان والتوتر الذي ظهر في العلاقات العربية بعد توقيع اتفاقات كامب ديفيد، وكانت اتفاقات إسرائيل مع منجستو هايلي مريم تنص على إرسال جزء من الأسلحة المتفق عليها إلى إسرائيل، ومنها صفقة دبابات، كما ساعدت الأقمار الإصطناعية الإسرائيلية في تقديم المعلومات المتعلقة بانتشار القوات الحكومية في جنوب السودان. واستمر الدعم في المرحلة الخامسة : خلال مرحلة التسعينيات بتقديم دعم أكثر تطورا وإن تأثرت المساعدات الإسرائيلية بمناخ المصالحة بين السودان وإثيوبيا. وقد تأثرت حركة التمرد بانقسامها إلى ثلاثة فصائل كما أن سقوط نظام منجستو أثر سلبا في الدعم الإسرائيلي، ولكن التطورات في القرن الأفريقي فتحت مجالا جديدا للتغلغل الإسرائيلي في المنطقة. وتركز الدراسة على أن الدعم الإسرائيلي هدف إلى إحباط الدعم العربي للحكومة السودانية وعرقلة العمل في قناة جونقلي والتحذير من هجرة الفلاحين المصريين إلى جنوب السودان والتركيز على أن يكون الجنوب دولة مستقلة . وأرسلت إسرائيل الخبير الاقتصادي البروفسور إيليا هولونفسكي من أجل تقدير الثروة النفطية الجنوبية ونصح الجنوبيين بالانتفاع بهذه الثروة، وأرادت القيادة الإسرائيلية إقامة علاقة مبكرة مع القادة الجنوبيين أسوة بعلاقاتها مع زعماء من الأكراد بحسب ما ذكره التقرير. ويرى التقرير الإسرائيلي ان اتفاقات ماشاكوس لم تكن حلا للخلافات بين الشمال والجنوب بقدر ما وضعت الأساس العملي والشرعي لانفصال جنوب السودان عن شماله وذلك من خلال قبول حكومة الشمال مبدأ تقرير المصير ومطالب أخرى تقدم بها جون قرنق وطورها لاحقا خلفه سالفا كير ميارديت الى حد الانفصال الكامل. إسرائيل في منابع النيل اسرائيل حققت الهدف وها هي امام المرحلة الاخيرة التي ستنتهي فيها من تقسيم السودان وقيام دولة جنوب السودان والجلوس المريح امام ممر النيل ، فماذا عن مصر المعنية الاولى بوادي النيل؟لا يختلف اثنان على اهمية النيل بالنسبة الى مصر شريانها الحيوي و مصدر الماء الرئيس لها . واذا كانت كينيا واثيبوبيا واوغندا تشكل دول المنبع فان السودان هي دولة الممر الرئيسية . واذا كانت الحكومات السودانية المتتالية منذ الاستقلال حتى اليوم تحاشت لاسباب كثيرة المس بمياه النيل والحصة السودانية المفترضة من المياه والتي تذهب طوعا الى مصر ، فان الوضع سيكون مختلفا في حال وجود حكومة في دولة مستقلة اسمها جنوب السودان ولايربطها ما يربط أهل شمال السودان مع مصر . وهكذا لم يكن مستغربا ان تركز اسرائيل على النيل في السنوات الاخيرة لضمان النظام الحاكم في مصر من القيام بأي مشاكل قد تثار في وجه الدولة العبرية