لعلكم تذكرون تكرار الرئيس مرسى لمصطلح "الشرعية" فى آخر خطاب له، وهو التكرار الذى جعل المصطلح يبدو للناس باهتًا بعض الشيء إلى حد السخرية والتندر.. الرئيس مرسى استخدم المصطلح كسلاح أخير فى وجه من يريدون عزله وتغيير أول تشكيل سياسي شرعي بعد ثورة يناير.. لجوء الرئيس مرسى لمصطلح "الشرعية" لفظًا ومعنى.. حقيقة وشكلاً لم يكن من فراغ خاصة فى وجه من يريدون تغييره.. وهو المصطلح الذى "حصن" السلطة وحماها من تغير الأمزجة والمواقف فى تاريخ مصر الحديث مرات عديدة، لعل أشهرها "سلطة" ما بعد الرئيس عبد الناصر وتحديدًا مع الرئيس السادات الذى احتاج إلى توظيف هذا المصطلح مرتين، الأولى بعد وفاة الرئيس عبد الناصر مباشرة والمرة الثانية بعد الأولى بعامين فيما عرف بثورة التصحيح. بعد أن تأكد كبار رجال الدولة أن الرئيس عبد الناصر قد توفى وغادر الحياة الدنيا.. غادر الجميع غرفة نومه إلى الصالون وجلسوا يعزون أنفسهم فى وفاة القائد العظيم، ناظرين فى ترتيبات المستقبل، كان الحاضرون "كل رجال الرئيس" -نائب الرئيس أنور السادات والأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربى "التنظيم السياسى الوحيد" على صبري، ووزير الحربية الفريق فوزى، ووزير الداخلية شعراوي جمعة، ومدير مكتب الرئيس سامي شرف، ووزير الإعلام، وصقر الصقور الأستاذ هيكل، الذى بادر الحاضرين بكلمة عن الشكل الذى يجب أن يتم به انتقال السلطة والذي يجب أن يعكس "الشرعية".. قائلاً: إن الشكل الأول القابل للتحقيق هو أن يتولى أنور السادات منصب رئيس الجمهورية بحكم وضعه كنائب لرئيس الجمهورية ويمارس صلاحيات الرئيس حتى انتهاء المدة المتبقية من رئاسة الرئيس الراحل عبد الناصر.. والشكل الثاني أن يبقى السادات رئيسًا للجمهورية حتى إزالة آثار العدوان وهو الحد الزمني الذي وضعه الرئيس جمال عبد الناصر عندما قبل التكليف الشعبي!! بالعودة إلى السلطة يوم 10يونيو1967 على أن تجرى انتخابات رئاسية جديدة بعد ذلك.. وأمام هذا التناقض الذى ألقاه الأستاذ هيكل فى وجه الحاضرين.. تم الاتفاق بين الجميع على ترشيح أنور السادات لفترة رئاسية جديدة ومنفصلة عن فترة عبد الناصر نظرًا لعدم توافق الصيغتين السابقتين والمقتضيات الدستورية التي تستلزم وجود رئيس منتخب يتولى تلقائيًا منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة. كان الأستاذ هيكل ونائب الرئيس أنور السادات فى حقيقة الأمر يمثلان جبهة واحدة ليس عن حب وتراضى، ولكن لوجود عدو مشترك يجمعهما وهو الجبهة الأخرى التى كانت تجلس قبالتهم فى الصالون وهم ببساطة شديدة كانوا كل مراكز القوة فى الدولة وزير الحربية ووزير الداخلية ورئيس الاتحاد الاشتراكي وكاتم أسرار الرئيس ومدير مكتبه والوزير المسئول عن كل شئون الرئاسة، لم تكن الجبهة الأولى تملك إلا سلاحًا واحدًا فى مواجهة كل هؤلاء الأشاوس وهو سلاح "الشرعية" لذلك لم يتردد الأستاذ هيكل كثيرًا فى اعتلاء ناصية الموقف.. وهو المشهور فى تاريخه كله بسرعة المبادرة ومباغته عدوه فى مكمنه.. وكان حديثه القاطع عن "الشرعية". سنقرأ بعد ذلك فى مطويات التاريخ.. أنه فى آخر انتخابات للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي فى عهد الرئيس عبد الناصر، حصل علي صبري على أعلى نسبة من الأصوات "134 صوتً" بينما حصل السادات على "118 صوتًا".. وهو ما جعل الرئيس عبد الناصر يسأل شعراوي جمعة وزير الداخلية عن سبب تراجع أصوات المؤيدين للسادات. فيجيبه الرجل: "لقد فعلنا المستحيل مع الأعضاء حتى يصل السادات لتلك النسبة، فيرد الرئيس عبد الناصر: طيب لو كنتم ما عملتوش المستحيل كان جرى إيه؟ وضحك الرئيس عبد الناصر وركب سيارته وغادر مبنى الاتحاد الاشتراكي وبصحبته السادات الذي كان يستمع لهذا الحوار". ستظل علاقة الرئيس عبد الناصر بالسادات أحد أهم مفاتيح "المغاليق الفولاذية" لمعرفة كل شىء عن دولة يوليو وكل ما ترتب عليها.. ليس ذلك فقط من معرفة بدايات العلاقة بينهما فى ظل التعاون المشترك بينهما مع المخابرات الألمانية.. ولكن فى تفاصيل أخرى كثيرة أهمها تعيين الرئيس السادات نائبًا له عام 1969م والأهم هو تلك القصة التى رواها الأستاذ هيكل عن إخفاء سر العملية "عصفور" عن السادات.. حيث زراعة أجهزة تنصت واستماع داخل مبنى السفارة الأمريكيةبالقاهرة في ديسمبر 1967.. كان يعلم بسر العملية "عصفور" حوالي عشرة أشخاص في مصر كلها ليس من بينهم أنور السادات.. وذلك بأوامر صارمة من الرئيس عبد الناصر ذاته، الجبهة الأخرى "علي صبري وشعراوي جمعة والفريق محمد فوزي وسامي شرف" رفضوا بعد وفاة الرئيس عبد الناصر أن يعرف الرئيس الجديد أنور السادات بسر العملية "عصفور" لعدم ثقتهم فيه ولأن بعض ما وصلهم عبر تلك العملية به ما يدين الرئيس السادات ويستوجب محاكمته أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي.. معرفة الرئيس السادات بسر العملية "عصفور" حدثت قبيل انقلاب مايو عام 1971 وكان الأستاذ هيكل هو الذي أطلع السادات على السر.. هكذا كانت مصر فى دولة يوليو العظيمة، وليس سوى التاريخ من يمكنه أن يحكم على كل ذلك. سيكون عليك أن تكون "ساذجًا جدًا" حين تسمع الأستاذ هيكل وهو يقول إن العملية "عصفور" ظلت تسير بنجاح وظل تدفق المعلومات جاريًا منذ ديسمبر 1967 حتى يوليو 1971 عندما أفشى الرئيس أنور السادات سر العملية "عصفور" لصديقه كمال أدهم مدير المخابرات السعودية وصاحب العلاقات الوثيقة بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية والذي نقل المعلومة فور علمه بها للأمريكيين ما أنهى العملية الناجحة وأغلق باب كنز المعلومات للأبد. هكذا ببساطة تم خداع المخابرات المركزية الأمريكية فى عز ضعف دولة الرئيس عبد الناصر وفى عز قوة أمريكا.. ولك أن تسير فى السذاجة إلى أخر المدى حين تتصور أن المخابرات الأمريكية كانت تعرف كل تلك التفاصيل الطريفة وأنها سمحت بها لتمرر المعلومات "المتدفقة" التى يحدثنا عنها الأستاذ هيكل والتي يريدها القاطنون فى البيت الأبيض ليتم صنع القرارات فى مصر الجريحة بعد 67 على أساساها.. وهكذا كانت مصر فى دولة يوليو العظيمة "أنا.. منى.. كيف أحترس؟!". لماذا أخفى الرئيس عبد الناصر عن السادات سر العملية "عصفور"؟ ولماذا أخبره بها الأستاذ هيكل وهو يعلم ما كان يعلمه الآخرون عن السادات؟ سيقف التاريخ طويلاً ليتساءل عما عساه يكون "الأمن القومي" المهدد فى ظل رئاسة الرئيس المنتخب بعد ثورة يناير على ضوء كل هذه المعلومات الخطيرة التى كانت تحكم بها مصر فى دولة يوليو العظيمة ويحمى به أمنها القومي.. "رموني بالعيوب ملفقات وقد علموا أنى لا أعاب".
هذه المعلومات يتداولها الباحثون والدارسون لتاريخ مصر المعاصر؟ لكن "الساسة الجدد" لا يعرفون القراءة بل لا يعرفون التاريخ. ستمر أيام وليالي حالكات كالحات فى تاريخ أمنا مصر حتى يحتاج الرئيس السادات إلى ذلك المصطلح الحائر "الشرعية" فى حديثه مع قائد الحرس الجمهوري اللواء الليثي ناصف عشية 15 مايو 1971م فيكون على الرجل الذى سيقتل غيلة فى ظلام لندن بعدها أن يختار الوقوف إلى جانب "الشرعية" ويذهب إلى الجبهة الأخرى ويعتقل أفرادها من منازلهم فردًا فردًا.. لكن التاريخ الشهير لعالم المؤامرات يحتم علينا أن نذكر أن رئيس أركان القوات المسلحة فى ذلك الوقت الفريق صادق كان على خلاف مع وزير الحربية الفريق فوزى وهو ما جعله هو الأخر يقف إلى جانب "الشرعية" ويرفض تحريك جندي واحد من قوة المنطقة المركزية فى القاهرة.. الفريق صادق كان على علاقة وثيقة بالأستاذ هيكل "صاحب القدرة الفريدة على إقامة شبكة علاقات خطيرة مع الأطراف الموصولة بالنفاذ والتأثير". سيكون على كتب التاريخ أن تذكر لنا فى كل الأوقات أن أي رئيس جمهورية يتمتع بصفات رجل الدولة النافذ وبالأخص فى أوقات التأزم والقلق.. يعنيه كثيرًا أن تكون علاقة رئيس الأركان مع وزير الدفاع مشوبة بالتوتر "وليس صديقه الحميم".. "كيف ترى المنهاج والليل مظلم.. ولم تره واليوم أزهر شامس". وهو ما فعله السادات ثانية فى حرب أكتوبر حين استدعى المشير أحمد إسماعيل للخدمة ثانية "وهو يعلم ضعفه ومرضه" ويعينه وزيرًا للحربية ليكون بالمرصاد لرئيس الأركان الداهية سعد الدين الشاذلى "الذى كان فى أمس الحاجة إليه لإتمام العبور" وكل الدنيا كانت تعرف ما بينهما من خصومة. لن يحتاج الرئيس السادات إلى وقت طويل ليطيح بعدها بمن لا يريده من الفريق الليثي ناصف إلى الأستاذ هيكل.. ليجلس بعدها مستقرًا على كرسيه فى العرض الشهير سنة 1981م كي تستقر رصاصة من رصاصات التاريخ فى عنقه.. إذ ليس أسرع فى نقص أمر من تمامه كما يقولون. لتبدأ أمنا مصر ثلاثينية كئيبة "1981-2011م" كانت -بكل الحقيقة- امتدادًا طبيعيًا لدولة يوليو العظيمة. لنقف الآن حائرين أكثرنا غافلين.. وأقلنا واعين.. بحقيقة المجريات التى تجرى من أمامنا ومن خلفنا وعن يميننا وعن شمائلنا.. ليصدق قول الجامعة بن داوود أحد ملوك بني إسرائيل.. الذى امتلك أشياء كثيرة واستمتع بأشياء كثيرة لكنه وجد نفسه فى نهاية المطاف حكيمًا حزينًا قائلاً: "كل شيء ما خلا الله باطل.. بل باطل الأباطيل.. دور يمضى ودور يجيء.. والأرض قائمة.. والشمس تشرق والشمس تغرب.. والريح تذهب إلى الجنوب وتدور إلى الشمال.. كل الأنهار تجرى إلى البحر والبحر ليس بملآن.. العين لا تشبع من النظر.. والأذن لا تمتلئ من السمع فكل ما خلا الله باطل والكل قبض الريح". لنزداد يقينًا بعد يقين من أن الإيمان بالله الواحد القهار وعنايته يمنحنا شعورًا هائلاً بالأمن الذى لا يمكن تعويضه بأي شيء أخر.. لنزداد إيمانًا وإدراكًا أن طاعة الله تستبعد تمامًا الخضوع للبشر.. إنها تلك الصلة الرائعة بين الإنسان المخلوق المختار وبين الله.. ومن ثم بين الإنسان والإنسان.