يوم الأحد 31 أكتوبر 2010، احتشد مئات من النشطين الحقوقيين المغاربة في مسيرة رمزية في الشارع الرئيسي بالعاصمة الرباط، يرفعون يافِطات ويردِّدون شعارات تُطالب بتطبيق توصيات هيئة حقوقية رسمية، ويحذِّرون من عوْدة الدولة إلى الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي عرفتها البلاد خلال العقود الأربعة التي أعقبت الاستقلال. المسيرة دعا إليها المنتدى المغربي من أجل الحقيقة والإنصاف والجمعية المغربية لحقوق الإنسان والمنظمة المغربية لحقوق الإنسان والعُصبة المغربية للدِّفاع عن حقوق الإنسان وجمعية العدالة، نُظِّمت تحت شعار"من أجل تنفيذ التوصيات الصادِرة عن هيئة الإنصاف والمصالحة"، وشاركت فيها منظمات حقوقية ومنظمات المجتمع المدني والضحايا، بالإضافة إلى ممثلي أطياف المشهد السياسي، من إسلاميين ويساريين ونشطاء أمازيغ. وسارت المسيرة في شارع محمد الخامس الرئيسي وتوقَّفت أمام مبنى البرلمان، حيث عرضت قائمة بأسماء المُعتَقَلين السابقين والمنفِيين، كُتِبت بحروف صغيرة على قطعة ثوب طويلة، ترافَق رفعها مع شعار يطالب ب "جعل أجهزة الأمن تحت المراقبة الحكومية". مطالب بالكشف عن الحقيقة كانت المسيرة باليافطات المحمولة وصور المعتقلين والمُختفين المرفوعة والشعارات، التي تردد وتختصر مطالب الحركة الحقوقية المغربية بالكشف عن الحقيقة ومصير المختفين، وعدم تِكرار ما جرى من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، إن كانت اختطافات أو حجز في أماكن سرية غيْر قانونية أو تعذيب أو محاكمات تفتقد للعدالة، وأيضا بالإصلاحات السياسية والدستورية. هذه الإصلاحات التي طالب بها الحقوقيون، وردَت في التوصيات النهائية لهيئة الإنصاف والمصالحة التي أسسها العاهل المغربي الملك محمد السادس نهاية 2003 لقراءة صفحة الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، التي عاشها المغرب من 1956 إلى 1999 وجبر ضرر ضحاياها، المادّي والمعنوي، وطيّ هذه الصفحة، وشكلت حدثا سياسيا وحقوقيا، وسابقة تميَّز بها المغرب عن غيْره من الدول العربية. متابعة الملفات وبعد سنتيْن من الجُهد المكثَّف بعقد جلسات استماع للضحايا وعائلاتهم، بثت الأولى منها مباشرة على شاشة التلفزيون الرسمي المغربي وجلسات سرية مع فاعلين حقوقيين وسياسيين وأمنيين وبحث علمي عن مختفين، اختطفتهم الأجهزة الأمنية ثم اختفت آثارهم، والأضرار التي لحِقت مناطق بأكملها، احتضنت معتقلات سرية أو عرفت حركات احتجاجية، أصدرت تقريرا مُرفقا بتوصيات تضمَن جبْر الضرر الفردي والجماعي وعدم تِكرار هذه الانتهاكات. وكلَّف العاهل المغربي بعد انتهاء مهمة الهيئة، المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان متابعة الملفات التي لم يتِم استكمالها، خاصة ملف المختفين الذين يُقدَّر عددهم ب 60 مُختفِيا، ويُعتبر الزعيم اليساري المهدي بن بركة أبرزهم، حيث مضى أكثر من 45 عاما على جريمة اختطافه واغتياله على أيدي رجال المخابرات السرية المغربية بالعاصمة الفرنسية باريس، دون أن يظهر حتى الآن جُثمانه. مسيرة رمزية وإذا كانت منظمات حقوقية، منها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، تحفَّظت على اقتصار القراءة في الصفحة حتى عام 1999 لقناعتها أن انتهاكات جسيمة ارتكبتها أجهزة الدولة بعد هذا التاريخ، وأيضا عدم اعتذار الدولة عن هذه الإنتهاكات وعدم ذهاب الهيئة نحو ملاحقة الجلاّدين والحيلولة دون إفلاتهم من العِقاب، فإنها لم تمتنِع عن المشاركة في لجنة متابعة تنفيذ وتطبيق توصياتها، وشكَّلت هيئة خاصة بذلك. "هي مسيرة رمزية جاءت لتذكِّر بأهمية الخلاصات والتوصيات التي جاءت بها هيئة الإنصاف والمصالحة"، يقول أحمد ويحمان، الناشط الحقوقي ل swissinfo.ch، ويضيف أن التوصيات شكلت أرضية الحد الأدنى لكل مكوِّنات المجتمع المغربي، رغم ما أعلِن من تحفُّظات، وأن القبول بها كان مشروطا، كون مَن أصدرها، مؤسسة رسمية، بتوفر إرادة سياسية للشروع في تأسيس مرحلة جديدة لإقامة دولة الحق والقانون. ويذهب ويحمان إلى أن عدم تطبيق وتنفيذ توصيات الهيئة وعدم الأخذ بخلاصاتها، أدّى إلى انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان، تُعيد البلاد إلى سنوات الرصاص، وهي السنوات التي شهِدت الإنتهاكات التي شكَّلت الهيئة لقراءتها، مثل الاختطاف والاحتجاز خارج سلطة القضاء وممارسة التعذيب على المعتقلين، مشيرا إلى حالات أطر وكوادر جماعة العدل والإحسان في فاس أو شيوخ السلفية الجهادية أو ما يتردّد عن الإنتهاكات الممارسة في معتقل تمارة، القريب من الرباط، أو معتقل أوطيطا 2 (الذي أطلِق عليه اسم غوانطيطا 2) أو المحاكمات التي تفتقِد للعدالة، مثل محاكمة المعتقَلين على خلفِية ما عُرف بشبكة بلعيرج. ولا يعتقد ويحمان أن السلطة ستراجع ممارسة أجهزتها وتحد من الإنتهاكات الجسيمة المُرتكبة، لكنه يدعوها للإعتبار من الماضي وعدم حاجة البلاد إلى "هيئة إنصاف ومصالحة" بعد سنوات، وأيضا للالتزام بتصدير الدستور بالتزام المغرب بحقوق الإنسان، كما هو متعارف عليها دوليا، خاصة وأن المجتمع الدولي بدأ يربط علاقاته باحترام حقوق الإنسان، في إشارة إلى علاقة المغرب بالاتحاد الأوروبي. ويؤكِّد عبد الإله بن عبد السلام، عضو المكتب الوطني للجمعية المغربية لحقوق الإنسان ومنسق ''الائتلاف المغربي من أجل إلغاء عقوبة الإعدام" ل swissinfo.ch، أن الدولة لم تنفِّذ مُجمل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، خاصة المتعلِّقة بالإصلاحات السياسية والدستورية والتشريعية والتربوية والقضاء. توصيات في الأدراج وقال بن عبد السلام: "باستثناء جبر الضَّرر الفردي للضحايا وعائلاتهم، فإن التوصيات الأخرى بقيت طيّ الأدراج والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بأشكالها المتعدِّدة لا زالت متواصِلة وجبْر الضرر الجماعي لا زال حِبْرا على ورق"، داعيا إلى عدم الخلط بين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي أعلنها العاهل المغربي الملك محمد السادس عام 2005، وبرنامج جبْر الضرر في المناطق المتضرِّرة من الانتهاكات. ويتّهم بن عبد السلام الدولة بإزالة الذاكرة الجمعية للانتهاكات، المتمثلة في المعتقلات والسجون السرية، مثل نقطة 3 بالرباط ودار بريشة بتطوان ومعتقل تازمامارت الشهير، وهي الأماكن التي أوصت هيئة الإنصاف والمصالحة بجعلها متاحِف للإبقاء على الذاكرة والتاريخ. إلا أن الحكومة المغربية تنفي اتِّهامات المنظمات الحقوقية، وتقول إنها مُبالَغ فيها وأن ما يقع من انتهاكات، حالات فردية وليست منْهجا للدولة وأجهزتها، وتتحدّث عن الإجراءات التي اتُّخذت والقوانين التي سُنَّت لمكافحة التعذيب وملاحقة المنتهكين لحقوق الإنسان. ويقول خالد الناصري، وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة المغربية "نتَّفق مع مطالب الحقوقيين في تنفيذ توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، وأنجزنا بالفعل جزءا مهمّا منها. فنحن بصدد مسلسل، والعُقلاء يعرفون أنه لا يمكن إنجاز الباقي بين عشية وضُحاها، ونحن مستمرّون في هذا المسار". عودة الإنتهاكات! في سياق متصل، يعتبر عالي حامي الدين، رئيس "منتدى الكرامة" الحقوقي، أن هناك مشكلة منهجِية مُرتبطة بالفلسفة التي تمّ اعتمادها في تنزيل معنى العدالة الإنتقالية بالمغرب، ويوضِّح أن العدالة الانتقالية في البلاد التي عاشت التجربة، كانت مرحلة انتقال النظام السياسي من الديكتاتورية أو الحكم العسكري إلى نظام سياسي وحُكم مدني وديمقراطي، فيما العدالة الانتقالية بالمغرب تتِم بدون تغيير بالنظام السياسي، والذي لا أحد يطالب بتغييره. ويقول حامي الدين ل swissinfo.ch "إن هيئة الإنصاف قامت بعمل كبير ومجهودات جبّارة وفتحت ملفات وصاغت تقريرها بمسؤولية، والملك صادق على هذا التقرير، لكن السنوات الماضية بيَّنت أن الانتهاكات تعود من جديد، دون أن نتجاهل أن البلاد عرفت أحداثا خطيرة، مثل هجمات 16 مايو 2003، التي لم يُكشف عن مخطِّطيها حتى الآن. وأكد أن ما تريده الحركة الحقوقية المغربية، هو "عدم تِكرار ما عرفته البلاد من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في المرحلة السابقة"، مشددا على أن المغرب "يتوفَّر على كامل المؤهِّلات للانخراط في إصلاحات مؤسساتية ودستورية وسياسية، باعتبار أن هناك إجماعا وطنيا حول النظام الملكي وشخص الملك محمد السادس"، على حد تعبيره المصدر: سويس انفو