أثارني أحدهم وهو يرجوني سرعة الكشف على ولده بحجة أنهم في حالة طوارئ بسبب موسم الانتخابات، وأن ضيوفاً كثيرين قد تم التحفظ عليهم عندهم!؟. فقلت مستغرباً: ما الجديد؟!. وهل غابت حالة الطوارئ؟!. أليست تظللنا منذ عقود ولم تزل؟!. قال مصححاً: لا الطوارئ التي نقصدها هي تلك التي تزيد عن الطوارئ العادية؛ فلها مواسم تشتد فيها؛ مثل الانتخابات والأعياد بل وفي رمضان!؟. قلت: وهل انتابك يوماً ما أي إحساس بالذنب لأنك ظلمت بريئاً، أو قبضت على مظلومٍ؟. فقال بغير وعي، ويده تعبث بشاربه الكث؛ وكأنني لمست جرحه: كثيراً ما استشعر ذلك. فسألته مستعجباً: وما الدافع الذي يدعوك للظلم، أو لفعل ما لا تقتنع به؟!. فأزعجني رده الغريب؛ وكأنه يردد ما يحفظه ولا يعقله: أمن البلد فوق كل المشاعر، ومصلحة الوطن فوق كل اعتبار. ثم غمغم وكأنه يهزي بما يدور في نفسه المسكينة؛ وهمس بما أفزعني: أنا عبد المأمور. الإمام ... والإجابة المرعبة!؟. خرج صاحبي، وتذكرت قصة الأمام أحمد بن حنبل رحمه الله مع سجانه!؟. فذات يوم رق قلب السجان لحال سجينه، وأعجب بصبره وجلده، وأهابه ربانيته؛ فسأله: هل أنا من أعوان الظلمة؟!. فرد الأمام الجليل: إن أعوان الظلمة؛ هو من يرتق له ثوبه ويخصف له نعله، ويعد له طعامه، ولكنك من الظلمة أنفسهم!؟. احتياطي مضمون للمستبد: ثم تأملت رجل الأمن أو عبد المأمور وكيف كان إفرازاً طبيعياً لطبيعة فئة اجتماعية غريبة وهي العامة!؟. وهم الصنف الثالث من الناس؛ كما قال على رضي الله عنه: (الناس ثلاث؛ عالمُ رباني، ومتعلم يبغي النجاة، وهمجٌ رعاع يتبعون كل ناعق)!؟. ثم تذكرت عبد الرحمن الكواكبي رحمه الله في (طبائع الاستبداد) وهو يشكو بمرارة من طبيعة العامة: (العوام هم قوات المستبد وقوته، بهم عليهم يصول، وبهم على غيرهم يطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقاء الحياة، ويهينهم فيثنون عليه رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف بأموالهم يقولون عنه أنه كريم، إذا قتل ولم يمثل فيعتبرونه رحيماً، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التأديب، وإن نقم عليه بعض الأباه قاتلوهم كأنهم بغاة). من يزرع الأرض الخصبة؟!: وحتى نكون منصفين فإن تلك الفئة؛ قد تكون لها صفات أخرى طيبة؛ قد اكتشفها على مر التاريخ الأذكياء والناجحين من الدعاة والمصلحين؛ الذين امتلكوا مفاتيح انتشار أفكارهم؛ لأنهم فهموا أين تكون الأرض الخصبة الصالحة لزرع الثمار!؟. فاتجهوا بفكرتهم إلى هؤلاء القوم البسطاء، تلك الأرض الخصبة التي تعتبر وقود كل حركة، ومنها ينبع كل خير، وهم عوام وجمهور الناس!؟. ويعرفهم المفكر العراقي العظيم د. عبد الكريم زيدان في مؤلفه الرائع (أصول الدعوة)؛ فيقول: و(نريد من قولنا جمهور الناس معظمهم، ويكونون عادة مرؤوسين للملأ وتابعين لهم، كما يكونون غالباً فقراء وضعفاء ويباشرون مختلف الأعمال والحرف، وهم أسرع من غيرهم إلى الإستجابة إلى الحق فهم أتباع رسل الله، يصدقونهم ويؤمنون بهم قبل غيرهم، وفطرتهم سليمة، ومع هذا فإن هناك إحتمال تأثرهم بمكائد الملأ والسير وراء تضليلهم وأكاذيبهم كما حصل لقوم فرعون، فقد تابعوه على باطله وناصروه عليه فقال عنه وعنهم سبحانه: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ". [الزخرف 54] وذلك لأسباب عديدة: أولاً: الخوف، ثانياً: لإغراء بالمال وحطام الدنيا، ثالثاً: الشبهات التي يثيرها الملأ حول الدعوة والداعي). المأمور ... وعبده!؟: ولكن الغريب أن هذا الصنف يتلذذون بأن يعيشوا دوماً دور وحالة (عبد المأمور)!!!؟. وهو دور الجندي المطيع المتبع لسيده فيفعل به ما يشاء؛ وذلك كما قال الكواكبي رحمه الله!؟. أو مجرد مخلب قط ينهش به من يقف في طريقه!؟. فتصبح علاقتهما متلازمة ودائمة؛ فالمصالح واحدة، والأهداف واحدة، والصديق واحد، والعدو واحد، والرؤية واحدة، والأفكار واحدة، حتى تصبح الحياة واحدة!؟. ولنتأمل كيف رسم القرآن معالم هذا الميثاق أو العلاقة الغليظة: 1-يمتلكون نفس السلوك الاستكباري والتجبر على الخلائق: "وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ". [القصص39] 2-يمارسون نفس الأخطاء في التعامل مع الآخرين خاصة المعارضين: "فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ". [القصص8] 3-يخشون ظهور أهل الحق؛ فيغيظهم الحق سبحانه بوجودهم الذي يقلقهم: "وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ". [القصص6] 4-الله سبحانه يجمعهم في مصير واحد وخاتمة واحدة لظلمهم وتكبرهم في الأرض: "فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ". [القصص40] 5-لا يفيقون إلا في الوقت الضائع؛ فيصور الحق سبحانه تخاصمهم وتلاومهم وحوارهم البائس: "إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ. وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ".[البقرة166و167] عبد المأمور ... وخواطري ... يحاصرونني!؟: حاصرتني هذه الخواطر وأنا أفكر في أمر (عبد المأمور)؛ ثم تذكرت انتشار نوعيته، وتغوله في مجتمعاتنا العربية، وتجبره هو وأسياده وتطاوله!؟. وتمدد سلطان وهيمنة مؤسسته في كل مجالاتنا الحياتية السياسية والثقافية والتعليمية والاقتصادية والزراعية!؟. فلا يتم أي أمر، ولا تحل أي مشكلة، ولا يبت في أي قضية، ولا تعتمد أي خطة، ولا يتم تعيين أي فرد، ولا يرقى أي مسؤول، ولا يسافر أي شخص، ولا يكتب، ولا يقرأ إلا بموافقة هؤلاء القوم!؟. فلا نستغرب أن نتوقع أن يمتد هذا المخلب مستقبلاً ليعبث بخصوصياتنا؛ فيحدد نوع الطعام الذي نأكله في منازلنا، وفي اختيار الزوج أو الزوجة، و...!؟. فصام نكد ... يفصل طائفتين!؟: تعجبت كثيراً من سلوكيات هذا المخلب؛ وكيف يعيش داخل دائرة يتلذذ بها، ويحصر نفسه في منطقة يفصلها عنا سياج يزداد ويتعاظم يوماً بعد يوم؛ حتى صرنا بسلوكياته إلى طائفتين اجتماعيتين داخل بلادنا؛ فطائفة تضم عباد المأمور والمأمور، وطائفة تضمنا نحن الضحايا المحاصرين، والفصام النكد يزداد يوماً بعد يوم ونتباعد ونتمايز وتزداد الهوة بيننا يوماً بعد يوم!؟. وتذكرت قصة صاحب الجنتين التي رسمت هذه الصورة: "وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً". [الكهف35] لقد كان الكافر أثناء مداخلته الحوارية، يتحرك في صورة المهزوز المضطرب، وكأنه يهرب من خطر الاستقرار والمواجهة، (ودخل جنته)، هكذا في التعبير القرآني. إن جنته هي حدوده وهي غاياته، فعقليته عجزت عن كسر السياج الذي رضيت بأن يقام حولها، واهتماماته انحصرت داخل ذلك الحيز الضيق؛ ذلك الضيق المركب؛ ضيق الدنيا والماديات التي تعمي صاحبها، فلا يرى إلا ملكه. وضيق الفكر، فلا يسمع إلا نفسه، ولا يرى إلا رأيه، بنهجٍ فرعوني استبدادي إرغامي (ديكتاتوري)!؛ وذلك لأن الاهتمامات المادية بطول المعايشة تؤدي إلى حركة ضمور فكري، وعملية استلاب مهينة لدور وحرية العقل، في إن يرى الحقيقة مجردة بسيطة!. إن المناخ الاجتماعي المغلق، يفرز فكراً مغلقاً، ويُنشئُ سلوكاً متحجراً، ويُكَوِّنُ عقليةً منغلقةً. إنه يبني سجنه بيديه!؟: ثم تأملت سلوكيات هذا المخلب وما يصنعه من سلوكيات مدمرة للآخرين ولذاته دون أن يدري؛ فهاجمتني هذه الخواطر الحزينة والتساؤلات الحائرة: 1-ألا يدري أنه وإن تظاهر بالثبات؛ فإن داخله وضميره يطارده في يقظته وفي منامه؟!. ثم تأتيني الإجابة من الحسن رحمه الله في قوله عن العصاة القساة الظالمين: (إن ذل المعصية في رقابهم؛ أبى الله إلا أن يذل من عصاه). 2-ألا يعلم أن ولائه لمن يطغى على عباد الله وطاعته لمن يظلم الناس؛ فإن ذلك من عوامل تعذيبه لنفسه وجلده لذاته!؟. ألا يدري أنه يوماً ما سيعاني من تجبر سيده عليه وقسوته عليه شخصياً أو لعله الآن يطيعه علانية ويسبه ويبغضه داخلياً؟. ثم تذكرت رؤية ابن تيميه رحمه الله له ولأمثاله: (من أحب شيء أو أطاع أحد سوى الله عذبه الله به). 3-ألا يدري عباد المأمور الذين وسموا بترزية القوانين سيئة السمعة كما قال الفقيه الدستوري د. يحيى الجمل؛ فوضعوا قوانين الطوارئ والانتخابات و76 و88 أنهم ذات يوم سيقاسون من هذه القوانين التي وضعوها وسيعاقبوا بها ذات يوم؟!. ألا يشبهون قصة الدودة التي تصنع شرنقتها بيديها لتخنق نفسها بنفسها؟!. فقلت لنفسي إن القصص كثيرة وتؤكد هذه الرؤية، والتاريخ مليء بهذه النهايات لعباد المأمور!؟. ثم تذكرت هذه الحادثة المعبرة والمؤثرة؛ فذات يوم مر الحسن البصري رحمه الله على قوم يبنون أبنية ضيقة وصغيرة وكئيبة؛ فاثارت حفيظته؛ فقال: ألا يوسعون هذه البيوت؟!. فقالوا له: إنها سجون يبنونها. فرد باستغراب وتعجب: ألا يجهزونها ويهتمون بها فلعلهم يسكنونها يوماً ما؟!. وبعد ... فتلك الخواطر كانت بعضاً من هموم الحالم المسكين: د. حمدي شعيب