كان هذا هو حلم العلامة الفقية الدستورى الكبير عبد الرازق السنهورى رحمه الله ..وهو ما دفعه إلى أن يختار موضوع رسالته للدكتوراه عن الخلافةعام1923م..وهى الرسالة التى نشرت فى كتاب سنة 1926م ..بمدينة ليون الفرنسيه.. رساله الدكتور السنهورى اشرف عليها أستاذا فرنسيا(ادوارد لامبير) نصحه فى البداية بالابتعاد عن هذا الموضوع لحساسيته فى العقلية الأوروبية خاصة بعد الانتصار الذى تحقق فى الحرب العالمية الأولى 1918 والذى أدى إلى الإطاحة بالخلافة العثمانية وتوزيع ممتلكاتها على دول الحلفاء المنتصرين وفى مقدمتهم فرنسا ..إلا أن السنهوري ولثقته الكاملة فى مبادىء الفقة الإسلامي وتفوقه على الفقه الأوروبي فى مجال النظم القانونية و السياسية والاجتماعية أصرعلى أن يكون موضوعه للدكتوراة هو الخلافة الإسلامية ..ذلك انه كان يؤمن إيمانا قاطعا بضرورة إعادة الخلافة فى صورة(منظمة دولية)فى المستقبل(تحمل راية الإسلام وتخلد مبادئه و نظمه وتحمى وحدة أمته ومستقبلها وتمكنها من القيام بدورها فى المشاركة فى مستقبل العالم كأمه عظيمة خالدة موحدة .) فى مقدمة الكتاب يشير السنهورى الى أنها المرة الثانية التى يجد العالم الاسلامى نفسه دون خلافة لأن الجمهورية التركية أعلنت أنها عاجزة عن تحمل مسؤوليات الإمبراطورية العثمانية منذ عدة قرون.. (المرة الأولى كانت بعد هجوم التتار على الخلافة العباسية فى بغداد) ثم يشير فى موضع أخر الى أن موضوع بحثه ليس الإسلام كدين وعقيدة إنما بحثه ينصب على الشريعة باعتبارها علما وثقافة قانونية مليئة بالنظريات التي تثرى الفقة القانونى فى العالم كله..موضحا أنه كمسلم( ملتزم بإخلاص شديد واحترام عميق للدين الاسلامى)..إثراء الشريعة للفقه القانوني فى العالم كله أشار إليه الأستاذ الفرنسى قائلا(دراسة السنهورى قدمت لمعهد القانون المقارن كتابا يفخربه فى مجال الدراسات المقارنة كما قدمت لعلم القانون المقارن والبحوث القانونية بصفة عامة اكبرخدمة علمية بإبراز مبادىء الشريعة الإسلامية الأصيلة فيما يتعلق بنظام الدولة وأصول الحكم على حقيقتها التي يجهلها العلماء الأوربيون أو يتجاهلونها نتيجة المحاذير السياسية ورواسب التعصب المنتسبة إلى المسيحية وهى فى حقيقتها مظهرمن مظاهر الأطماع الاستعمارية .) كتاب( الخلافة) الذى قام على ترجمته وتحقيقه المرحوم الدكتورتوفيق الشاوى والسيدة حرمة الدكتورة نادية السنهورى الابنة الوحيدة للعلامة عبد الرازق السنهوري صدرفى كتاب عام 2001م . ويوضح د الشاوي أن أهميه الكتاب ازدادت في وقتنا هذا لتوضيح النقطة التى يجب أن نبدأ منها تطبيق الشريعة الإسلامية ..هل نبدأ بالتنفيذ فى ميدان القانون العام خاصة فيا يتعلق بالضمانات الشرعية للحريات الفردية و المبادىء التى تحمى الأفراد من طغيان الدولة واستبداد الحكام ..؟ ذلك أن تطبيقها فى مجال القانون الخاص وبالأخص فىما يتعلق بالعقوبات الجنائية قد يحول الأنظارعن الإصلاحات الضرورية فى نظم الحكم والأخطر انه قد يعطى الحكام المستبدين سلاحا جديدا يفرضون به استبدادهم و يهددون به معارضيهم وخصومهم..ولهم فى ذلك براهين تاريخية وهو رأى كما نرى له وجاهة وصدقية وإحساسا دقيقا بموضع الوجع والأنين . رأى أخر يراه المتعجلين بتطبيق أحكام الشريعة _فى رأى د الشاوي_ إذ يرون انه يجب البدأ بتقنين المعاملات والأحوال الشخصية و الحدود.. على أن يكون إصلاح النظم السياسية من مسؤولية الشعوب والحركات السياسية .. فمن الصعوبة مطالبة فقهاء القانون والشريعة بعلاج استبداد الحكام وسلبية الشعوب..يكفى المطالبة والتذكير بتقريرمبدأ الرجوع إلى الأصول التى وضعتها الشريعة لتكون أساسا للنظم الاجتماعية والسياسية ونظام الحكم بصفة خاصة .. أيا ما كان الأمر فالأهمية الكبرى تكمن في ضرورة العناية بدراسة المبادىء الإسلامية لنظام الدولة والمجتمع التى يلتزم بها الحكام والشعوب معا .. يخلص السنهوري فى دراسته الرائعة إلى أن : *مبدأ الفصل بين السلطات هو أساس نظام الحكم الإسلامي خاصة ما يتعلق بالسلطة التشريعية التي يجب أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً عن( الخليفة). *إجماع الأمة هو مصدر التشريع الإسلامي وأن الأمة هي التي تعبر عن الإرادة الإلهية بإجماعها وليس الخليفة أو الحاكم بسلطته. *سيادة الأمة يؤدي بالضرورة إلى سيادة السلطة التشريعية ويجب ألا يملكها فرد مهما تكن مكانته خليفة كان أو أميراً أو ملكا أو حاكماً فهي لله تعالى وهو سبحانه فوضها للأمة في مجموعها والتي يجب أن يرتبط بها(الإجماع) في شكله الصحيح. هذا الكلام العلمي الدقيق الذي اشرف على إنتاجه عالما فرنسيا كبيرا وصف د السنهوري بأنه(عالم مسلم ناشىء فذ)وأكد على فائدة الكتاب للقراء العرب في انه سيوضح الفرق بين المبادىء الإسلامية التى تقوم عليها نظرية الخلافة ونظام الحكم..وبين الممارسات التاريخية التى ابتعدت عن تلك المبادىء وقام عليها نظام الخلافة الغيرراشدة خلال تاريخها الطويل...وفوق ذلك يستخلص من الأصول النظرية و التجارب التاريخية والواقع العصري للعالم الاسلامى خطة جديدة لإعادة بناء الخلافة فى المستقبل فى صورة منظمة دوليه شرقية إسلامية. انتهى كلام د.لامبير . رحم الله الدكتور السنهورى والدكتورالشاوى ..اللذين قدما للحركة الإسلامية تصورا عصريا لإحياء الخلافة وإعادة بعثها ..وهو الحلم الكبير الذى طالما بشر به الأستاذ البنا فى دعوته . على انى أسجل هنا أن الكتاب الذى نزل المكتبات في فرنسا سنة 1926م لم يره قراء العربية إلا عام 2001م. أي بعد خمسة وسبعون عاما . الأكثر طرافة وعجبا من تأخر نشره بالعربية..هو أن هناك إلى يومنا هذا من(يثأثأ)و(يفأفأ)..بأقوال على شاكلة فصل الدين عن الدولة أو أن الإسلام يقدم نموذجا للدولة الدينية والحكم الثيوقراطى..أو الإسلام ليس به تصور كامل للحكم..والقصة لاعلاقة لها بالإسلام و منهجه الحكيم ..إنما القصة فى حقيقتها تكمن فى شيئين: قصور معيب فى الثقافة والمعرفة .. وحساسية معيبة تجاه الدين و التدين . [email protected]