وجه الله عباده بعد الوقوف بعرفات إلي عبادة الذكر أنزَل الله ﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ [البقرة: 198]، ﴿ وأكد سبحانه علي هذه العبادة بعد الانتهاء من المناسك ورمي الجمرات ” فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾ [البقرة: 200]. وهذا فضل الله على هذه الأمَّة ؛ لكي يستَقِيموا إلى ربهم، ويتطهَّروا من ذنوبهم، ويَنصُروا دينَهم، ويستمرُّوا في طريق إيمانهم الذي رسمه الله لهم؛ ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأنعام: 153]. نعم هذا فضل الله.. فلا تطيب الدنيا إلا بذكره، ولا تطيب الحياة الا بشكره ، ولا تطيب الاخرة الا برؤياه ، ( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً ) الترمذي وابن ماجه وذكرَ الله أفضل العبادات واجل القربات لأنه أعظم ما يخطر على البال، وأشرَفُ ما يمرُّ بالفم، وأجمَلُ ما يستقرُّ في القلب ، فهنيئًا للذاكر ذكره، وطوبى لمن ذكَّر ناسيًا ونبَّه غافلاً وأيقظ نائمًا وردَّ هائمًا، وأعان ذاكرًا، ودلَّ حائرًا، وأرشد تائهًا، وقاد مكفوفًا، وحمل مُقعدًا، وأزاح الغطاء عن الدهماء والبسطاء ..!! إذن كيف بك أخي القارئ يذكرك ربك القوي القادر وأنت تنساه ، كيف يرزقك ربك الغالب القاهر وأنت تعصاه ، كيف بالقوي يذكر الضعيف، و الغني يذكر الفقير، والفقير ينسى الغني وهو يعيش في رفده وعطائه؟!، كيف بمانح الحياة يذكر أولئك الذين ﴿لا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا﴾ (الفرقان:3) كيف بالباقي يذكر الفاني والفاني ينسى ذكر مَن أوجده وإليه منقلبه . إن مَن يغفل عن ذكر ربه بعد هذا النداء العلوي " فاذكروني اذكركم " ( البقرة ) حري به أن يتقبَّل العزاء في قلبه. في الحج ، المؤمن رجم الشيطان وتخلص من وساوسه وشراكه ، وتملص من حباله وشباكه واستانف الطريق الي ربه ؟ نعم قد تعتريه خطوب وتعترضه كروب وتثقله هموم وذنوب ، فإما ان ينحاز إلي الشيطان او يعش في ذكر الرحمن „ ومن يعش عن ذكر االرحمن نقيض له شيطان فهو له قرين ” لماذا ذكر الله ؟ عندما ينطَلِق الناس صَوْبَ الدنيا يَعبُدون ترابها ويَشتَهُون مَلذَّاتها، يَتَفاخَرون بها، ويَتَقاتَلون من أجلها، يأتيهم ذكرُ الله - عزَّ وجلَّ - فيعلمهم أنَّ مع اليوم غدًا، وأنَّ مع الدنيا آخِرةً، وأنَّ الإنسان يجب أنْ يحسن وجهته، ويبرئ ذمَّته، وينظم شؤونه، فيَعمَل لمعاده كما يعمل لمعاشه، ويعمل لغده كما يعمل ليومه، وهذا ما عَناه القرآن؛ ﴿ فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ﴾ [النجم: 29]. المؤمن حين تُحِيط به النَّوازِل، و يشتدُّ عليه البَلاء، و تُصارِعه الشدائد - يَأتِيه ذكرُ الله - عزَّ وجلَّ - فيُعلمه أنَّ الله على كل شيء قدير، وأنَّه بكلِّ شيء بصير، وأنَّه غالبٌ على أمره، وأنَّه لن يُفلِت أحدٌ من يده؛ لذلك يَرجِع إلى ربِّه ذاكِرًا فيَعلُو شأنه، ويطمئن قلبه، ويرتاح فؤاده، وهذا ما يُبيِّنه الله: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]. لا بأموال ولا أولاد، ولا جاه ولا سلطان يطمئن القلب .. كيف؟ ﴿ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى ...﴾ [سبأ: 37] إنما يطمئن ويأمن بذكر الله، وبذكر الله فقط! وعندما يأتي الشيطان إلى الإنسان فيشده إلى المعصية، يأخُذه إلى الذنب، يُوجِّهه نحو غضَب الله - والعياذ بالله - يأتيه ذكرُ الله فيُعلمه أنَّ هناك ربًّا غافر الذنب وقابل التَّوب شديد العقاب؛ فيَنهَض من كبوته، ويُقال من عَثرَته، ويَعُود إلى ربِّه، ويَستَغفِر من ذنبه، ويَستَأنِف الطريقَ إليه، كيف؟ ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135]. هذا شابٌّ اصطَحَب في الليل فتاةً يريد بها سوءًا، قال لها: الجو صافٍ، والكواكب ساهرة، ولا يَرانا أحدٌ، فقالت له تُذكِّره بالله: إذا كانت الكواكب ساهرةً فأين الذي هو مُكَوكِبها؟! أين الله؟! أين الخالق؟! فإذا بالشابِّ يقشعرُّ بدنه، وينتَفِض قلبه، فيَعُود إلى ربِّه مُستَغفِرًا من ذنبه، وما يفعل ذنبًا ولا يرتَكِب إثمًا بعد ذلك اليوم أبدًا! ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ (الأعراف: 201) وعندما يريد الإنسان أنْ يُنفِق ويتصدَّق يَأتِيه الشيطان فيعصب عينيه ويُقيِّد يدَيْه، يجره إلى الشُّحِّ والإمساك، ويدعوه إلى البخل وعدم الإنفاق، هنا يَأتِيه ذكرُ الله فيبدد الغشاوة من عينيه ويُنزع القيد من يدَيْه ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [المنافقون: 9 - 10]. عندما يتَّجِه الناس نحو الجهاد ليُعلوا كلمة الله، ويَنصُروا دين الله، يَأتِيهم ضِعاف القُلُوب يُحذِّرونهم كيف تقتُلُون أنفُسَكم؟ مَن للأولاد؟ من للضَّيْعات؟ لماذا تذهَبون للقِتال؟ هنا يأتيهم ذكرُ الله يُذكِّرهم بالثَّبات؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الأنفال: 45]. يقولون لهم: إنَّ التعرُّض للجهاد لا ينقص عمرًا، وإنَّ القُعُود في البيوت لا يَدفَع موتًا؛ ﴿ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154] ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ .. [النساء: 78]. هذه امرأةٌ مؤمنةٌ خرَج زوجُها إلى الجهاد فقُتِل شهيدًا، وترَك لها عددًا من البَنِين والبَنات، فجاء مَن يُعزِّيها ويُخوِّفها من مَصِير أولادها بعد وَفاة أبيهم، فقالت في ثَباتٍ: أتُخوِّفني من مصير أولادي بعد ذَهاب زوجي؟! أمَّا زوجي فقد لقي ربَّه شهيدًا، وهذا ما تمنَّاه، وأمَّا مصير أولادي فقد عرَفتُ زوجي أكَّالاً وما عرفته رزَّاقًا، فإنْ مات الأكَّال فقد بقي الرزَّاق، وهو الله - جلَّ في عُلاه! ذكرُ الله عبادة عظيمة أنت تستَطِيعها على أيِّ لونٍ كانت الحياة؛ في يُسرِك أو عُسرِك، في غناك وفقرك ، في قوتك وصعفك ، مُقيمًا أو مُسافرًا، مريضًا أو معافى، حاكم أو محكوم ، ذُكِر أنَّ رجلاً قُطِعت يَداه، وبُتِرت ساقاه، وعَمِيت عَيْناه، فسمعه رجلٌ آخَر يقول: الحمد لله الذي عافاني ممَّا ابتُلِي به كثيرٌ من الناس، فقال له الرجل الآخَر المعافى: من أيِّ شيءٍ عافاك الله وأنت هكذا بهذا الحال؟! قال الرجل المؤمن الصابر المُحتَسِب: الحمد لله الذي جعَل لي لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وبدنًا على البَلاء صابرًا! والأمَّة الإسلاميَّة تُحاط من جميع الجِهات، وتُواجِه كلَّ يوم عقبات؛ تكالَبتْ عليها الأُمَم كما تتَكالَب الأكَلَة إلى قَصعَتها، ليس من شيءٍ إلاَّ لبُعدِها عن ذكر الله، وحبها للدنيا وكراهيتها للموت؛ لذلك يجب أنْ تستَفِيد من صلاتها وصيامها، وزكاتها وحجِّها، فتُداوِم على ذكر ربها، ولن تعود لسابق عهدِها إلا بذلك، ولن تعود إلى كامل مَجدِها إلاَّ بهذا، ولن تنتَصِر على أعدائها إلاَّ بذكر الله.. فانتبه أيها الإنسان! إن الذي يخاطبك ويأمرك بذكره ويعدك إن ذكرته أن يذكرك إنما هو ربك الذي أوجدك من العدم وأسبغ عليك النعم ظاهرة وباطنة ، ودرأ عنك من البلايا ما علمت وما لم تعلم، فكيف تغفل عن ذكره وهو يناديك: (من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرمنه ...
لذلك المسلم يجبُ أنْ يكون دائمَ الذكر لله - تعالى – حتى يسلم في الحياة و يستظلَّ يومَ القيامة بظلِّ الله (سبعةٌ يُظلُّهم الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة يوم لا ظلَّ إلاَّ ظلُّه: إمامٌ عادل، وشابٌّ نشَأ في عِبادة الله - عزَّ وجلَّ - ورجلٌ ذكَر الله في خلاء ففاضَتْ عَيْناه...)؛ قال الشيخ الألباني: صحيح. فطوبى لمَن أدام ذكر الله فأحيا الله به قلوبًا دبَّ فيها الموات، وجدَّد الله به حياة تسرَّب إليها الفوات ، وزكَّى الله به نفوسًا دُسَّت في ركامٍ هائل من زخرف الحياة الدنيا، وقوَّى الله به عزمًا أصابه الفتور الذي أقعده عن المكرمات، وأحيا الله به الأمل في نفوس كاد اليأس أن يقتلها، وأسكب الله به الطمأنينة في قلب توزعته الأهواء وبددته المخاوف، فلم يجد بابًا ليس دونه بواب، ولم يجد أملاً لا يستحيل إلى سراب إلا في جوار الله العزيز الوهاب؛ فرطب لسانه وفؤاده بذكره واعتذر عن نسيان حقه فيما سلف من عمره وفرَّط من أمره، وعاهده أن يبقى سلمًا لأوليائه حربًا على أعدائه مادامت الحياة في ارضه وسمائه ..!! اللهم اجعَلنا لك ذكَّارِين شكَّارين، مُخبِتين مُنِيبين، اللهم فقِّهنا في ديننا، وفهِّمنا شِرعَة ربِّنا، اللهم ارزُقنا الإخلاصَ في القول والعمَل، ولا تجعَل الدنيا أكبَر همِّنا ولا مَبلَغ علمِنا، وصلِّ اللهمَّ على سيِّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلِّم، والحمد لله ربِّ العالمين. خميس النقيب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.