السياسة في أشهر تعريفاتها هي: فن الممكن، أقصى الممكن، ولعل ذلك بأثر من هيمنة التصورات الفكرية المعاصرة التي تؤكد على المرونة التي لا حد لها، وعلى البراجماتية التي لا سقف لها، وعلى المساومات والتوافقات التي لا منتهى لها. ولقد ركزت أغلب التعريفات الغربية لعلم السياسة على علاقات السلطة، وتراوحها بين الممارسة بشكل رسمي (القوة) أو بشكل غير رسمي (النفوذ)، ومن ثم انحصرت أغلب مفاهيم السياسة بين القوة والسلطة. وركزت جوهر العلم: مفاهيما واصطلاحات وقضايا، على رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية. وفي هذا الإطار سيطر اتجاهان على تعريف علم السياسة: الأول تقليدي: وعرّف السياسة بأنها: علم الدولة، أي ذلك العلم الذي يدرس الدولة: مفهومها، وتنظيمها ومؤسساتها، وتشكيلاتها، وممارساتها، وسياساتها وعلاقاتها. حيث الدولة في هذه الرؤية هي جوهر دراسة علم السياسة. أما الاتجاه الثاني: فلقد عرّف علم السياسة بأنه علم السلطة السياسية، أي ذلك العلم الذي يدرس السلطة باعتبارها مفهومًا شاملاً يمتد إلى كافة المجتمعات البشرية. ذلك أن الإنسان ومنذ أن وجد علي ظهر الأرض، والعيش مع الآخرين ضرورة تطلبها الطبيعة الإنسانية، وهي بدورها تفرض ضرورة وجود علاقات مبنية علي أساس التفاوت والاختلاف مما يتطلب وجود حقوق وواجبات والتزامات واختلافات، مما يفرض وجود سلطة، فالسلطة وضع اجتماعي وهي علاقة بآخر، فالسلطة إذن هي إحدى مسلمات الطبيعة البشرية، يكمن سبب وجودها من شرعيتها في الهدف الذي تشكلّت من أجله في المجتمع. أما إذا انتقلنا إلى عالمنا العربي: لغة ومفهوما: فنجد أن السياسة في اللغة العربية اشتقت من كلمة "ساس" الأمر، أي قام بالأمر، وبالتالي تعني كلمة سياسة القيام بأمر من أمور الناس. وعليه بنيت معاني ومفاهيم السياسة في الرؤية العربية الإسلامية باعتبارها القيام على الشيء بما يصلحه، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية، في كتابه السياسية الشرعية في إصلاح الراعي والرعية. ومن ثم فالسياسة في الرؤية الإسلامية تشمل كل مراحل ودوائر حركة الإنسان بدءًا من سياسة المرء لنفسه ثم بيته ثم مجتمعه أو دولته أو حتى العالم، والسياسة في هذه الرؤية: إرادة وإدارة. وجوهر دراسة علم السياسة في هذه الرؤية هو: مفاهيم الإصلاح والصلاح والصلاحية، وإدارة المجتمعات والجماعات بالمعنى الشامل. والسياسة ليست فقط إدارة المشتركات الإنسانية والاجتماعية بل هي فن وعلم إدارة الاختلاف، فالمشتركات لا تحتاج إلى سياسة، لأن لها من التوافق والانسجام بين المكونات ما يعمل على حل الخلافات ودا وسلما، أما قضايا الاختلاف والتنافر فهي التي تحتاج إلى السياسة لتحدد عناصر التعامل معها وكيفية إدارة معاني الاختلاف ودوائره وتداخلاته. إن جوهر عمليات السياسة في المجتمعات المعاصرة هي كيفية إدارة الصراعات الاجتماعية سلميا، بحيث لا تقوم جماعة سيطرت على مقدرات الدولة بإهدار حريات وحقوق الآخرين. ولكي لا تظن جماعة بسيطرتها على مقدرات الدولة أنه بإمكانها حذف المختلفين معها من الوجود الاجتماعي والسياسي. كما أن جوهر عمليات السياسة في المجتمعات المعاصرة هي الحفاظ على الحد الأدنى من التوافق بين مختلف الفرقاء، وعدم اللجوء إلى التفكير الهدمي القائم على إلغاء الخصوم من معادلة الوجود أو التأثير. وإن أي عمل إصلاحي في الواقع المصري الحالي يجب أن يقوم على إعادة تحرير مفهوم السياسة من أسر السلطة والدولة، ومن قبضة الهيمنة والاستحواذ، ومن أفكار الإلغاء والإقصاء. فالسياسة في المجتمعات المعاصرة لم تعد علم السلطة والدولة حتى وإن عبرت هذه المفاهيم عن السياسة من أعلى، إنما السياسة الحقيقية هي السياسة من أسفل، هي ما ينفع الناس ويمكث في الأرض. والسياسة في المجتمعات المعاصرة تدور مع الناس حيث داروا، وتعبر عن مصالحهم حيث كانت. فلا إقصاء ولا إلغاء للخصوم ولا هيمنة ولا سيطرة مطلقة ولا غير مطلقة، ولا تأبيد، بل فترات مقدرة لمدد محددة. إن أي عمل سياسي في الواقع المصري المعاصر ينبغي أن يقوم على تصور كامل لمجمل الخريطة السياسية وتحديد الأعداء والحلفاء المتوقعين والمحتملين، ومحاولات التخطيط بالسيناريو وتحديد الاحتمالات ونسب تحقق كل سيناريو أو بديل، ولا بد من وضع خريطة افتراضية للاحتمالات غير المتوقعة، أو إن اختلفت نسب تحقق البدائل على الأرض. ومن المهم في السياسة في الواقع المصري المعاصر التأكيد على أن الناس ليسوا ملائكة وأطهار ولا شياطين أشرار بل تكوينات سياسية واجتماعية تحكمها شبكات التحالف والمصالح وأفراد لهم مصالح ورغبات. ومن المهم في السياسة المعاصرة التأكيد على عمليات التنبؤ بمسارات المستقبل وعدم الوقوع في الحاضر فضلا عن الوقوع في براثن الماضي، والعيش ضمن منظومته التي تجاوزها الزمن.