تعليم قنا تحصد المركز الأول في مسابقة "الأخصائي المثالي للصحافة"    رسامة قمص بكنيسة الأنبا شنودة بقرية بهجورة في قنا    وزير العمل: لدينا عِمالة ماهرة ومُدربة جاهزة لسوق العمل الخارجي    هشام آمنة: برنامج "مشروعك" نفذ 211.7 ألف مشروع بقروض 28.4 مليار جنيه    توريد 208 آلاف طن قمح لشون وصوامع البحيرة    رئيس جهاز القاهرة الجديدة يجتمع بسكان حى الأندلس بالتجمع الثالث لبحث مطالبهم    «مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    إسرائيل تستدعي سفيرها لدى إسبانيا بعد الاعتراف بفلسطين    طلعت يوسف يحذر لاعبي فيوتشر من نشوة الكونفدرالية قبل مواجهة الزمالك    جوارديولا: أود مشاركة جائزة أفضل مدرب بالدوري الإنجليزي مع أرتيتا وكلوب    جوميز: كنت قريبا من تدريب الأهلي.. وهذا شرط منافستنا على الدوري    موعد مباراة ريال مدريد ضد بوروسيا دورتموند في نهائي دوري أبطال أوروبا.. والقنوات الناقلة    تقارير: ماكرون يفشل في إقناع بيريز بالتخلي عن مبابي من أجل الأولمبياد    رفع 1090 حالة إشغال طريق خلال حملات مكبرة بالبحيرة    الداخلية: ضبط 480 دراجة نارية لعدم ارتداء الخوذة    7 سنوات للمتهمين بالتنقيب عن الآثار فى عين شمس    أحمد حلمي يتبرع بخاتم عسل أسود في مزاد خيري بأستراليا    بروتوكول تعاون بين نقابة السينمائيين واتحاد الفنانين العرب والغردقة لسينما الشباب    صحة المنيا: حملات مكثفة لمكافحة مسببات وناقلات الأمراض    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة بمديريات الصحة في 6 محافظات    مساعد وزير الصحة يكشف تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    للمرة الأولى منذ "طوفان الأقصى".. بن جفير يقتحم المسجد الأقصى    إقامة صلاة الجنازة على رئيسي وعبداللهيان في طهران    هيئة شئون الأسرى: قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا بالضفة الغربية    رئيس حزب الجيل: فخور بموقف مصر الحاسم تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    لمواليد برج القوس.. اعرف حظك في الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024    في محو أمنية .. مصطفى خاطر مؤلف روايات    فدوى مواهب تخرج عن صمتها وترد على حملات المهاجمين    الأزهر يطلق صفحة مستقلة بفيس بوك لوحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللادينى    تقديم 4599 طلباً للحصول على شهادة بيانات عقار للتصالح بالفيوم    توريد 208 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة    التكييف في الصيف.. كيف يمكن أن يكون وسيلة لإصابتك بأمراض الرئة والتنفس؟    قمة عربية فى ظروف استثنائية    تعديلات جديدة على قانون الفصل بسبب تعاطي المخدرات    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    هربا من الحر للموت.. دفن جثتى شابين ماتا غرقا بنهر النيل في الصف    رئيس مياه القناة: استخراج جذور الأشجار من مواسير قرية الأبطال وتطهير الشبكات    لأول مرة .. انعقاد مجلس الحديث بمسجد الفتح بالزقازيق    طلاب جامعة الإسكندرية في أول ماراثون رياضي صيفي    دار الإفتاء توضح أفضل دعاء للحر.. اللَّهُمَّ أَجِرْنِى مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    استطلاع رأى 82% من المواطنين:استكمال التعليم الجامعى للفتيات أهم من زواجهن    سيدة «المغربلين»    طلاب جامعة القاهرة يحصدون المركزين المتميز والأول فى مسابقة جسر اللغة الصينية    طلاب الشهادة الإعدادية في الإسكندرية يؤدون امتحان الهندسة والحاسب الآلي    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    عباس أبو الحسن بعد دهسه سيدتين: أترك مصيري للقضاء.. وضميري يحتم عليّ رعايتهما    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    طريقة صنع السينابون بالقرفة.. نكهة المحلَّات ولذَّة الطعم    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    شاهد.. حمادة هلال ل إسلام سعد: «بطلت البدل وبقيت حلاق»    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين الغزو الجائح والحصان الأفغانيّ الجامح
نشر في المصريون يوم 12 - 09 - 2010

(1) رغم التكثيف الأمريكي الظاهر للقوة العسكرية فى أفعانستان، فإننى أزعم أن لحظة الأفول توشك أن تسدل أستارها على ساحة الغزو الإمبريالي الأمريكي فى أفغانستان، ويوشك التاريخ أن يطوى صفحة مجلّلة بالخزي والعار على ثالث إمبراطورية عظمى استهانت بالشعب الأفغاني وقامت باحتلاله منذ تسع سنوات، فىوقت قد بلغ منه الضعف والتمزق مداه، بعد حرب طويلة مع الغزو السوفييتى استنزفت قواه، تبعتها حرب أهلية تعيسة طرحته أرضا فاقد الوعى يلعق جراحه.. ومع ذلك يعود الشعب الأفغاني المجهد البسيط للمرة الثالثة ليحطم أسطورة الإمبراطورية الأمريكية فى عز قوتها وجبروتها .. فما هو سر قوة هذا الشعب العجيب..؟!
كتبت قبل ذلك منذ تسعة أعوام والقوات الأمريكية تستعد لغزو أفغانستان مقالة مطولة نشرتها مجلة المختار الإسلامي، حذّرت الولايات المتحدة ألا تغتر بقوتها وتستهين بالشعب الأفغاني، لأن احتلالها سيبوء بالفشل وسترتد خاسرة على أعقابها نادمة يوم لا ينفع الندم.. وقد ختمت مقالتى بهذه الفقرة:
" تنتهز القوى البربرية الأمريكية الغازية حالة الدمار الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ الأفغاني.. بسبب حرب المقاومة الطويلة للغزو السوفييتي.. ثم الحروب الأهلية التي تلته، كما تنتهز حالة الدمار والجفاف والجوع والتمزق والانكسار الذي أصاب الشعب الأفغاني لتفرض عليه الاستسلام الكامل للإرادة الأجنبية، ولكن سوف تظهر حركات مقاومة أكثر ذكاء ، وأعمق فهماً ، وأقدر على مواجهة الغزو الجديد.. ولن تكون أفغانستان أبداً نزهة للقوات الأجنبية الغازية كما يحلمون...!"
أليس عجيبا أن أقوى دولة فى العالم تذهب بأضخم ترسانة عسكرية فى العالم وبجيش بلغ مائة وأربعين ألفا تسانده قوات مرتزقة قوامها مائة ألف من قبيل قوات "بلاك ووتر"، إلى واحدة من أفقر وأضعف دول العالم .. لم يكن بها أهداف لتدميرها لإحداث فرقعات إعلامية هائلة [بنص تصريح وزير الدفاع رامسفيلد] ثم تفشل الدولة الأعظم وتوشك جهودها وأهدافها على الانهيار أمام مليشيات عددها محدود.. ولكن إيمانها بالله والنصر لا حدود له...!
(2) قصة الحصان الجامح: كان فردريك ماكيسون ضابطاً في الجيش البريطاني برتبة "لفتنانت"، ثم أصبح وكيلاً سياسياً، وهي وظيفة تجمع بين العمل الدبلوماسي والاستخبارات معاً، بعث برسالة تاريخية هامة عن خبرته في أفغانستان إلى توماس هربرت مادوك نائب الحاكم العام البريطاني في الهند.. تاريخ الرسالة هو 9 نوفمبر 1841 أي بعد سنتين تقريباً من الغزو البريطاني لأفغانستان، كتب يقول:
" لقد وجدنا الهند بلاداً يسهل حكمها والسيطرة عليها كأنها ظهر حصان اعتاد على حمل الأثقال، فكان سعيداً بحملنا الخفيف .. أما أفغانستان بقبائلها الجبلية الشرسة التي لم ترضخ ولم تذعن لأحد من قبل فإنها مثل الحصان النافر الأبي الذي لم يعتد السرج أو المكابح واستعصى على الركوب، فإذا اقترب منه أحد أو لمسه غضب وانتفض ورفس في كل اتجاه .. مثل هذا الحصان يحتاج إلى راكب ماهر قد يعتلي صهوته إذا استطاع استئناسه"..
أقول أهو إلهام أو محض صدفة..!؟.. لا يهم .. فقد نطق فردريك ماكيسون بالحكمة والحقيقة عندما وصف أفغانستان بالحصان الأبي المستعصى على الركوب .. يدرك هذا من يتأمل بعمق في تاريخ أفغانستان، فقد كانت دائماً على اختلاف العصور تكره وتقاوم أمرين: (1) حكم الأجنبي الدخيل.. (2) وسلطاناً مفروضاً عليها من قوة خارجية.
حاولت هذا الإمبراطورية البريطانية وهي في أوج قوتها، وكذلك فعل الاتحاد السوفيتي فأشبعهما الحصان الأفغاني رفساً حتى الموت.
(3) الهاجس الأمني في الهند البريطانية: في القرن التاسع عشر كانت بريطانيا في قمة عظمتها الإمبريالية، وكانت الهند هي بقرتها الحلوب ودرة التاج البريطاني، حتى أن بريطانيا كانت تشعر أنها بغير الهند تفقد عظمتها الإمبريالية ومكانتها بين الأمم والشعوب، لعل هذا كان هو السبب في إلحاح هاجس الأمن والاستقرار في شبه الجزيرة الهندية، أو الهند البريطانية كما سماها البريطانيون.. ومن أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار في الهند خاضت بريطانيا أهوالاً ومخاطر، وتورطت أحياناً في أخطاء مهلكة، وكان غزوها لأفغانستان من أكبر هذه الأخطاء...!
فما الذي كانت تخشاه بريطانيا على أمنها في الهند...؟: في البداية ..وبالتحديد خلال القرن الثامن عشر الميلادي كان أخطر الأعداء على الحكم البريطاني في الهند هم الفرنسيون، هؤلاء انحسر نفوذهم سنة 1763م، وإن بقيت فلول منهم هنا وهناك يناوئون النفوذ البريطاني ويحاولون إيقاع الخسائر بشركة الهند الشرقية.
بعد سنة 1815م تقهقر الخطر الفرنسي لكي يحل محله الخطر الروسي القادم من الشمال، فقد زحفت روسيا القيصرية نحو تركستان فغزت بعض أجزائها وغدت تضغط بنفوذها على الخانات الثلاثة الباقية تحت حكم الأوزبك وهي خانات بخارى وخيفا وجوكندة.
استغرق الخطر الروسي وقتاً طويلاً لكي يتبلور ويتضح لعيون الإمبراطورية البريطانية المنبثين في دول آسيا الوسطى، حيث بدأت تقارير الوكلاء السياسيين الذين كانوا يقيمون وينتقلون هناك تنبّه إلى تعاظم القوة الروسية، وأن احتكاكها بالإمبراطورية البريطانية في الهند قد أصبح وشيكاً.
شرعت بريطانيا تفكر في كيفية مواجهة غزو روسي محتمل عن طريق إيران أو تركستان،و كانت تدرك أنه إذا تم للروس الاستيلاء على الخانات الثلاثة الإسلامية الباقية في تركستان فلن يبقى حاجز بين روسيا والهند البريطانية سوى أفغانستان.. فإذا تمكنت من التغلغل بنفوذها في أفغانستان، امتد تأثيرها إلى العدو الداخلي في الهند، وأصبح الأمن فيها مهدداً، وهذا أكبر ما تخشاه بريطانيا لأنها كانت تستبعد أن تقوم القوات الروسية بتهديد مباشر أو الاحتكاك بالقوات البريطانية في معارك سافرة.
فمن هو العدو الداخلي الذي كانت بريطانيا تخشى استثارته...؟
لم تكن مناطق شبه الجزيرة الهندية كلها تحت الحكم البريطاني المباشر وإنما كانت هناك مناطق يحكمها راجات هنود أقوياء وأمراء أفغان، وهؤلاء لم يكن ولاؤهم مضموناً إلا تحت شروط استمرار القوة المطلقة لبريطانيا دون منازع، ثم يوجد أيضاً العدد الهائل من الجنود الهنود في الجيش البريطاني، وهؤلاء رغم ثبوت ولائهم ونفعهم في أغلب الظروف إلا أن تمردهم وارد، وقد وقعت بالفعل حوادث تمرد متفرقة أمكن احتواؤها في حينها.
ولكن مع ظهور عدو قوي على الحدود فإن عواقب الجنوح والتمرد تصبح غير مأمونة، ويصبح الخطر على أمن الهند البريطانية واستقرارها خطراً حقيقياً لا مجرد هاجس محتمل.
في مواجهة هذا الخطر تنازع في السياسة البريطانية اتجاهان قويان: أحدهما يدعو إلى التغلغل في آسيا الوسطى (تركستان) وقطع الطريق على الزحف الروسي نحو الجنوب، أما الاتجاه الثاني فكان يركز على تأمين حدود الهند البريطانية من الشمال والغرب وجعل أفغانستان منطقة عازلة بين القوتين الإمبرياليتين الروسية والبريطانية، وقد استقر الرأي على انتهاج هذا الاتجاه في السياسة البريطانية.
ولذلك لم تفكر بريطانيا في بادئ الأمر أن تقوم بغزو أفغانستان أواحتلالها، وإنما كانت تتطلع إلى إقامة حكومة موالية لها في أفغانستان تقبل وجود سفارة دائمة بها ووكلاء بريطانيين على شكل خبراء دبلوماسيين وعسكريين مهمتهم الرسمية نُصح الحكومة الأفغانية في إدارة شئونها الداخلية، ويقومون برسم ومتابعة سياستها الخارجية مع الدول الأخرى .. والسؤال هو: من أين تأتي هذه الحكومة العميلة..؟ وهل كانت الأوضاع السياسية في أفغانستان تسمح بذلك...؟
(4) من استقرائنا لتاريخ العلاقات ين الدول الاستعمارية والبلاد القابلة للاستعمار سنلاحظ أن البحث عن حكومة عميلة هو الاختيار الأول لأى قوى أجنبية تسعى للهيمنة على الشعوب المستضعفة، وهو أهون الاختيارات وأكثرها دواما واستقرارا.. وفى هذه الفئة تقع أكثر بلاد العرب والمسلمين من باكستان إلى موريتانيا.. فإذا تعذر هذا كان الاختيار الثانى هوالبحث عن بؤر الصراع على السلطة فى هذه البلاد ودعم طرف منها ضد الأطراف الأخرى، وعادة ما يكون لهذا الاتجاه بوادر سابقة تنكشف لمن يحسن قراءة التاريخ واستراتيجيات الدول الاستعمارية.. ومن هذه البوادر احتضان قيادات المعارضة لاستخدامها عند اللزوم.. والنموذج الأمثل لذلك حديثا، كان فى حالة المعارضة العراقية فى الخارج التى استخدمتها أمريكا مقدمة لغزو العراق ثم وضعتها على السلطة لتحكم من خلفها وتنفذ خططها الخاصة بصرف النظر عن المصالح الحقيقية للشعب العراقي.. هذه أساليب استراتيجية قديمة لم تتغير فى تاريخ بريطانيا أوأمريكا أو الاتحاد السوفياتى...!
فى ضوء هذه الحقائق لابد لنا أن نرجع قليلاً إلى الوراء لنرى كيف تطورت الأمور في أفغانستان لتصل إلى النقطة التي آذنت بالاقتراب البريطاني والنفاذ إلى الشئون الداخلية الأفغانية...؟
(5) الصراع الداخلي: حكم نادر شاه إيران وأفغانستان وشن حملة ناجحة على الهند المغولية فاستولى على كنوزها ومجوهراتها ولكنه اغتيل في طريق عودته سنة 1747م.. وكان لنادر شاه حرس خاص مكون من أربعة آلاف مقاتل أفغاني عادوا إلى قندهار بعد اغتياله، وكان على رأس هؤلاء الفرسان قائد طموح هو أحمد خان عبدلى .. اختاره مجلس القبائل شاهاً عليهم فأطلق على نفسه لقب دوراني ومعناه (لؤلؤة اللآلئ) وأصبح اسمه أحمد شاه دوراني .. امتدّ سلطانه ليشمل كل مناطق أفغانستان .. ثم امتد من مشهد إلى كشمير ودلهي في الهند، ومن أموريا داري في آسيا الوسطى إلى البحر العربي، وأصبح هذا الشاه الأفغاني صاحب أكبر ثاني إمبراطورية إسلامية بعد الدولة العثمانية.
اشتهر نادر شاه بجسارته وحسمه وبشخصيته القيادية الفذة مما أكسبه اسم "بابا" أي (أبُ الأمة) .. مات سنة 1772م فخلفه ابنه تيمور شاه، ولكن ثارت عليه القبائل فاضطر لنقل عاصمته من قندهار إلى كابول، وقضى حياته مشغولاً بفض النزاعات القبلية وتهدئة القبائل الثائرة حتى قضى نحبه سنة 1793م.
استطاع ابنه الخامس "أمان شاه" الاستيلاء على السلطة بمساعدة زعيم قبيلة "براكزاي"، فلما استقر له الأمر في أفغانستان تحول إلى الهند يريد غزوها، هنا انزعج البريطانيون وقاموا بتحريض "فتح علي" شاه إيران على "أمان شاه" لتحويل انتباهه عن الهند.
[نلاحظ هنا ظهور مرحلة من التفسخ الواضح في المجتمعات المسلمة، تضافرت عليها ثلاثة عوامل متآزرة: الوجود البريطاني بمكره وعقليته التآمرية القائمة على مبدأ "فرّق تسد"، وخفة الحكام والقيادات المسلمة وسهولة إيقاعهم في غواية السلطة والثروء، وضعف الشعوب المسلمة التي بلغت الحضيض من التخلف والجهل... لذلك لم يكد "فتح علي" يرى تشجيع البريطانيين له للانقضاض على حاكم آخر مسلم منافس له حتى خطا من عنده خطوة أخرى أشنع وأبشع، حيث قام بتحريض أخٍ لأمان شاه هو محمود شاه حاكم "هيرات" أمده بالمال والرجال لغزو قندهار، فقام محمود هذا بمساندة من وزير قوي له هو "فتح خان براكزاي" بالاستيلاء على قندهار ثم تقدم نحو كابول..
أسرع أمان شاه عائداً من الهند لينقذ مملكته في أفغانستان ولكنه تعرض لسلسلة من وقائع الخيانة، تمكن الخونة في نهايتها من تسليمه مسمول العينين إلى أخيه محمود فسجنه في قلعة "بالاهيار" في كابول عام 1800م.
لم يكن شاه محمود هذا يتمتع بأي مؤهلات للحكم، ولم يكن مهتماً بمصالح الدولة وشئونها، وإنما كان غارقاً في متعه الشخصية ونزواته .. تاركاً تدبير شئون الدولة في يد وزيره "فتح خان"، فلما ساءت أحوال الناس تحالف زعماء القبائل ودعوا أخاً ثالثاً لأمان شاه اسمه "شاه شوجا" .. فتقدم إلى كابول وحاصرها حتى استسلم محمود وطلب عقد سلام مع "شاه شوجا".
ولأن شاه شوجا كان يفتقر إلى قوة الشخصية ولا يتمتع بالبصيرة أو الخبرة السياسية والحنكة فإنه لم يستطع كبح جماح زعماء القبائل الذين انطلقوا يمارسون سلطات مستقلة في مناطقهم، وبظهور الضعف في السلطة المركزية بكابل تشجع الجيران الطامعون للانقضاض على أفغانستان .. فزحف سيخ البنجاب على شرق أفغانستان، وهددت إيران أفغانستان من الغرب.
كان نابليون بونابرت حينذاك في أوج قوته وسطوته فاقترح على الروس
( نكاية فى أعدائه البريطانيين) غزو الهند عبر أفغانستان، فأسرع البريطانيون بإرسال بعثة إلى أفغانستان يرأسها "مونتستيوارت إلفنستون" الذي التقى بشاه شوجا في بيشاور للتباحث في أمر هذا الغزو المتوقع، وتمت معاهدة صداقة بينهما في 7 يوليو سنة 1809م، وعَد الشاه فيها ألا يسمح بمرور أي قوات أجنبية في أراضي أفغانستان.. ولكن لم تكد تنتهي إجراءات توقيع المعاهدة حتى وصل إلى المتفاوضين خبر استيلاء محمود (الشاه السابق) ووزيره "فتح خان" على كابول وأن قوات شاه شوجا قد تمزقت، فاضطر إلى اللجوء إلى الهند عند أصدقائه الإنجليز سنة 1815م.. وتحت غطاء الصداقة يحتفظ الإنجليز عادة بأمثال شاه شوجا لاستخدامهم كأدوات في بلادهم عندما تتهيأ الظروف لذلك..
ولأن الوزير "فتح خان" - كما سبق أن ذكرنا - ينتمي إلى قبائل براكزاي، لذلك جاء معه برجاله من هناك فانتشروا وسادوا في أفغانستان، مما أوغر صدر "كامران خان" الابن الأكبر لشاه محمود الذي وجد نفسه مُهمشاً تحت نفوذ البراكزاي، فتحايل للقبض على "فتح خان" وفقأ عينيه وأمر بتقطيعه إربا.. هذا الانتقام البشع كان سمة من سمات الأسر الحاكمة، وهي تتصارع على السلطة، خصوصاً عندما تنفرد قبيلة أو مجموعة من القبائل بالسلطة وتفرض طغيانها على الآخرين، ومن ثم يتوالى مسلسل الانقضاض والقتل ثم الانتقام المروّع بين سائر القوى المتصارعة...
وهذا ما حدث بالفعل .. فقد خرج "دوست محمد" الأخ الأصغر لفتح خان من كشمير سنة 1818م واستولى على بيشاور وكابول وجرد "شاه كامران" من ممتلكاته فيما عدا هيرات حيث بقى فيها بعض سنوات.
ولكن في عهد "دوست محمد" تكالبت القوى الخارجية على أفغانستان حيث استولى أمير بخارى على بلخ واستولى السيخ على مقاطعات ما وراء نهر الإندوس، وبقيت مقاطعتا السند وبلوخستان مستقلتين.
ارتفع دوست محمد من قاع هذه المحنة فتمكن من السيطرة على غزنة وكابول وجلال آباد، وأنشأ بذلك مملكة أسرة براكزاي ولقب نفسه بالأمير سنة 1826م.. ثم حاول إعادة بيشاور ولكن القائد السيخي "رانجيت سنج" تمكن من إشاعة الفرقة في معسكر خصمه، فتبخر جيش دوست محمد وفقدت أفغانستان منطقة بيشاور إلى الأبد، وظلت موضوع نزاع بينها وبين جارتها باكستان إلى اليوم...
نتابع الموضوع إن شاء الله فى حلقة لاحقة....
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.