بالرغم من انهيار الاتحاد السوفيتي وتفككه قبل 22 عاما ، إلا أن المجتمع الروسي يشهد حتى وقتنا الحاضر جدلا بشأن مصير الجثمان المحنط لفلاديمير لينين، زعيم الثورة الاشتراكية الروسية، ومؤسس الدولة السوفيتية. ويمتد هذا الجدل إلى ضريح لينين الملتصق بالكرملين في الميدان الأحمر الشهير، فهناك من يدعو إلى إغلاق الضريح ودفن لينين على الطريقة المسيحية، ومن يعارض هذه الخطوة على اعتبار أن الضريح والجثمان أصبحا جزءا من التاريخ الروسي. وعندما عاد بوتين في العام 2012 إلى الكرملين لولاية رئاسية ثالثة، توقع كثيرون بأنه سيقوم بدفن لينين وإغلاق الضريح، غير أن فلاديمير كوجين، رئيس لجنة الشؤون المالية والإدارية بالرئاسة الروسية، نفى مؤخرا وجود أية خطط لدى الكرملين بهذا الشأن. وتعود المحاولات الأولى لإثارة هذا الموضوع إلى عهد ميخائيل جورباتشوف، عندما طالبت شخصيات مُعارضة ليبرالية في البرلمان السوفيتي في العام 1989 بضرورة دفن لينين بجانب والدته في سان بطرسبورج ( لينينجراد سابقا ) حسب وصيته، التي شكك فيها كثيرون وقتذاك، وقابلت غالبية نواب البرلمان آنذاك هذا المقترح بالاستهجان والرفض، وجرى وصف ما يتردد عن رغبة لينين في دفنه بجانب والدته بالكذبة المفضوحة. وفي الرابع عشر من مايو 1999 ، كان الكرملين مستعدا للقيام بإخراج جثمان لينين من ضريحه وإعادة دفنه، وذلك حال قيام مجلس الدوما" مجلس النواب"، باتخاذ القرار المتعلق بعزل الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين من منصبه، ففي تلك الأيام احتدم الصراع السياسي بين المعارضة البرلمانية والرئاسة في روسيا، حيث قرر البرلمان، الذي كان به الكثير من الشيوعيين وحلفائهم، تطبيق الدستور الروسي بشأن عزل رئيس الدولة. وتدل الوقائع التاريخية على أن المرسوم الخاص بدفن جثمان لينين كان جاهزا وموقعا من قبل يلتسين، وكان يمكن تنفيذه على الفور، حال عدم تراجع الشيوعيين وحلفائهم عن عزل الرئيس. وبالرغم من أن نواب المعارضة لم يتمكنوا آنذاك من جمع الأصوات الكافية لإقرار عزل يلتسين، إلا أن فكرة إخراج جثمان لينين من الضريح وإعادة دفنه في مكان آخر ظلت قائمة لدى السلطات الروسية وجرى ترحيل عملية إعادة دفن الجثمان إلى شهر أغسطس من العام 1999. وفي تلك الأيام انضم بطريرك موسكو وعموم روسيا السابق، الكسي الثاني ، إلى الحملة المتعلقة بهذا الموضوع ليعطيها التبرير الديني اللازم ، وأعلن " أن رقاد لينين داخل الضريح أمر يتنافى تماما مع التقاليد والتعاليم المسيحية "، كما أعلن زعيم الحزب الليبرالي الديمقراطي ، فلاديمير جيرينوفسكي ، أنه سيتم إحراق جثمان لينين ودفن رفاته في مقبرة" فولكوفسكويه" في مدينة بطرسبورج. وفي الحادي والثلاثين من ديسمبر 1999 ، أعلن بوريس يلتسين تنحيه عن السلطة وتسليمها إلى رئيس الوزراء فلاديمير بوتين ، الذي انتُخب رئيسا لروسيا في مارس 2000 ، وظل في هذا المنصب لولايتين متتاليتين ( 2000 2008 )، ثم سلم بوتين السلطة إلى " رفيق " دربه ديميتري ميدفيديف ، ليكون رئيسا لروسيا في الفترة من 2008 وحتى 2012 ، وانتقل بوتين إلى منصب رئاسة الوزراء، ثم عاد بوتين إلى عرش الكرملين مجددا في 2012 ليستمر رئيسا لروسيا حتى 2018 ، وربما حتى العام 2024 . وحتى يومنا الحاضر ترى الكنيسة الروسية أن إعادة دفن لينين ، هي مسألة وقت لاغير، لكون حفظ جسد الميت بهذه الطريقة ينافي كل الأعراف الدينية، ولكن الكنيسة تدعو، في نفس الوقت ، إلى التعامل مع هذا الموضوع بحرص شديد لتجنب الانقسام في المجتمع الروسي. وتشير بعض استطلاعات الرأي في روسيا إلى أن الأصوات الداعمة لقرار إخراج الجثمان وإعادة دفنه على الطريقة المسيحية ، تزايدت في الفترة الأخيرة لتصل إلى 56 % من الروس مقارنة بست سنوات مضت، ويستند هؤلاء في موقفهم إلى أن بقاء جثمان لينين في الضريح بالساحة الحمراء، حيث تقام الاحتفالات الشعبية الموسيقية الصاخبة في الأعياد والمناسبات المختلفة، يعد أمرا غير مناسب لحرمة الموت. ومن المعروف أن عملية تحنيط جثمان لينين جرت مباشرة بعد وفاته في العام 1924 ، كما جرى تشييد الضريح الأول من الخشب في نفس عام الوفاة، وفي العام 1930 جرى الانتهاء من بناء الضريح المُشيد من الرخام الفاخر المائل للاحمرار ، الذي يشبه إلى حد كبير الهرم المدرج بطول 18 مترا ، وارتفاع تسعة أمتار، وربما كان هذا الشكل الهرمي تعبيرا عن " الخلود والأبدية "، ويرقد لينين داخل هذا الضريح في كامل هيئته، في بدلته السوداء وقميصه الأبيض، ورابطة عنقه ومنديله الأحمر. ويُذكر أن العديد من شوارع المدن الروسية لا يزال يحمل اسم لينين ، ولا تزال تماثيله قائمة حتى اليوم في الكثير من المدن داخل روسيا، وخارجها في الجمهوريات السوفيتية السابقة. وتُظهر استطلاعات الرأي في روسيا أن نحو 60 % من الروس ينظرون نظرة إيجابية إلى لينين حتى يومنا الحاضر، ويبدو أن موجة النفور من رموز الحقبة السوفيتية، بما فيهم ستالين، والتي سادت في روسيا مطلع التسعينيات من القرن الماضي، قد تلاشت بدرجة ما، ومن ثم بات من الصعب حاليا إصدار قرار سياسي من بوتين بإخراج جثمان لينين من ضريحه. ويُرجع علماء الاجتماع الروس سبب الوفرة في تماثيل لينين في روسيا حتى اليوم ، إلى وجود فراغ في نفوس الكثيرين من سكان البلاد ، فحتى الكنيسة بكل ما لديها من قدرات حاليا لم تتمكن من القيام بملء هذا الفراغ . وهكذا ، يمكن أن يظل لينين في ضريحه يطارد روسيا لفترة طويلة قادمة من الزمن كرمز للدولة السوفيتية ، التي لم تعد قائمة أصلا على خارطة العالم الجيوسياسية منذ ديسمبر 1991 .