تستعد الأطراف الجزائرية لصدور النصوص التنفيذية لميثاق السلم والمصالحة الوطنية الذي صوّت عليه الجزائريون في 29 سبتمبر الماضي، وذلك في ظل المخاوف من المطالبة بالتحقيق في المجازر والتفجيرات والاغتيالات والاختطافات التي عاشتها الجزائر ابتداء من يناير 1992، تاريخ إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية ، التي فازت بدورها الأول الجبهة الإسلامية للإنقاذ قبل أن يلغيها الجيش في انقلاب سافر على الشرعية وخيار الشعب الجزائري . ويعِد ميثاقُ السلم والمصالحة الوطنية المسلحين بإلغاء المتابعات القضائية في حال تسليمهم أنفسهم، كما أن إحدى فقراته تحذر من "التذرع بما خلّفته المأساة الوطنية من جراح بقصد زعزعة أركان الدولة أو وصم شرف جميع أعوانها الذين أخلصوا في خدمتها ، أو تشويه صورة الجزائر على الصعيد الدولي". ويحصر الميثاق العفو على المسلحين الذين ألقوا السلاح، أو المتورطين في تمويل الإرهاب وأعلنوا توبتهم، والمحكومين غيابياً، وغيرهم ممّن تعرضوا لإجراءات إدارية وفصل عن العمل. ولم يُستثن من هذا العفو سوى الضالعين في المجازر الجماعية، وانتهاك الحرمات واستعمال المتفجرات في الاعتداءات على الأماكن العمومية. كما يحظر الميثاق كل نشاط سياسي على القياديين الإسلاميين السابقين "الرافضين للاعتراف بمسؤوليتهم ". ويتراجع الميثاق عن الاعترافات الرسمية السابقة بمسؤولية الدولة في قضية الآلاف من المفقودين، ويرفض أي ادّعاء يهدف إلى تحميل الدولة مسؤولية عملية اختفاء متعمدة. ويفوض الميثاقُ رئيسَ الجمهورية ليطلب باسم الأمة الصفح من كافة ضحايا المأساة الوطنية وإرساء السلم والمصالحة الوطنية. وكانت الحكومة والأجهزة الأمنية والعسكرية الجزائرية قد نجحت، خلال السنوات الخمس الماضية، في تقليص العمل المسلح المعارض بشكل كبير. فقد نجح الرئيس بوتفليقة، منذ مطلع دورته الرئاسية الأولى، عبر المزاوجة بين الوعود السياسية والضغوط الأمنية ، مستفيدا في ذلك من تجربته السياسية العريقة ، في تقليل عدد المسلحين المعتصمين بالجبال. وتمكن عبر قانون الوئام المدني من إنزال الآلاف من المسلحين من رؤوس الجبال، من سائر الجماعات المسلحة. فبعد مناورات وإقدام وإحجام، نجح بوتفليقة في حل ما كان يُعرف باسم "الجيش الإسلامي للإنقاذ"، والذي اعتبر الجناح المسلح للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وكان يضم نحو (7) آلاف مسلح، وكان يعتبر القوة المسلحة المنظمة الأساسية. كما نجح في إنزال الآلاف من أعضاء الجماعة الإسلامية المسلحة المعروفة محلياً باسم "الجيا"، من الجبال، وتمكن من إقناع بعض المئات من جماعات مسلحة أخرى، منها الجماعة السلفية للدعوة والجهاد، المعروفة باستهداف العسكريين ورجال الأمن دون سواهم من المدنيين، بالتوقف عن القتال، على الرغم من بقاء الجسم الأساسي للجماعة السلفية معتصماً بالجبال، مناوئاً للحكومة وللمؤسسة العسكرية. وبنزول تلك الأعداد من المسلحين من الجبال، والتي تقدرها مصادر جزائرية غير رسمية بأكثر من (20) ألف مقاتل، تراجع كثيراً تأثير العمل المسلح المعارض، وصار بإمكان الأجهزة الأمنية والعسكرية الجزائرية التعامل مع موضوع المسلحين والعمل المسلح بسهولة. وتذكر وزارة الداخلية الجزائرية أن عدد المسلحين وصل في منتصف التسعينيات -وهي الفترة التي عرفت ذروة العمل المسلح المعارض- إلى (27) ألف مسلح. وهي تقول الآن إن ما بين (600 إلى 700) مسلح لا يزالون في الجبال.. وإذا قدرنا أن نحو(6) آلاف أو أكثر من ذلك بقليل من المسلحين يكونون قد قُتلوا خلال هذه الفترة، التي تمتد على نحو عشر سنوات، فهذا يعني أن نحو (20) ألفاً هو عدد الذين نزلوا من الجبال. مشكلة المفقودين ويخشى النشطاء السياسيون الجزائريون من أن تتذرع السلطة بالنصوص الخاصة بالمفقودين لقمع كل نشاط يطالب بتسليط الضوء على وقائع المأساة التي عاشتها بلادهم، علماً بأن الحكومة الجزائرية تقدر عدد المفقودين منذ بداية الأحداث ب (6146) شخصاً يؤكد أقرباؤهم أنهم اختطفوا على يد وحدات الأمن التي كانت تشتبه في انتمائهم إلى الجماعات الإسلامية المسلحة أو تعاونهم معها. عائلات المفقودين لا تعارض مبدأ التعويض غير أن جزءاً كبيراً منها يشترط أن تسبق التعويض عملية تحرٍ واسعة عن مصير ذويهم ومحاكمة من ثبتت مسئوليته عن هذا المصير. وترفض المنظمات الممثلة لهذه العائلات أن تتم المصالحة الوطنية على حساب الحقيقة بشأن مصير ذويهم، بينما يقول المسؤولون بأن هناك الكثير من الدول طوت صفحة نزاعاتها المسلحة بهذه الطريقة، والجزائر ليست الدولة الوحيدة التي تفعل ذلك. طمس للحقيقة أم ضرورة وطنية؟ ويرى بعض المعارضين السياسيين الجزائريين أن ميثاق السلم والمصالحة الوطنية يدعو إلى طي الصفحة دون قراءتها، وبالتالي فهو يتعمد طمس الحقيقة، كما أنه يبرّئ الدولة -وخاصة أجهزتها العسكرية والأمنية- من الجرائم التي ارتكبتها، من تعذيب وتقتيل واختطاف، ويحصر المسؤولية أساساً في الطرف المقابل أي الجماعات الإسلامية المسلحة. ويعتقد هؤلاء أن الخطوط الأساسية للميثاق تفرض الصمت على الماضي، وتبرئ الدولة من مسؤولياتها في الأزمة، وتلقي بتبعية ما جرى على طرف واحد، وتطلق أيدي الرئيس بوتفليقة ليتصرف كحاكم فردي مطلق لإرساء السلم والمصالحة الوطنية. وهو ما جعل معارضي الميثاق يعتبرون أن الأمر يتعلق بمصالحة بين المسؤولين عن الأزمة أي الدولة والجماعات الإسلامية المسلحة، وعلى هذا الأساس اعتبروا أن الهدف الحقيقي من الميثاق هو العفو عن كل الجرائم. وهم يرون أن الأمن والاستقرار لا يمكن أن يتحققا دون إرساء ديموقراطية حقيقية، ولا يمكن للديموقراطية أن تُرسى دون إماطة اللثام عن الماضي ومحاسبة المسؤولين عنه، وإحداث تغييرات جوهرية في الواقع السياسي تطول نظام الحكم وأسسه الدكتاتورية. لكن جهات جزائرية عديدة ترى أن المصالحة ضرورة وطنية، وتحقيق العدالة المطلقة أمر مستحيل، وعمليات التحقيق في جرائم العنف تحتاج إلى إرادة وطنية صادقة ونزيهة. لقد حاول الرئيس الأمين زروال حل المشكلة بمشروعه عام 95 الذي أسماه مشروع الرحمة وأخفق، وحاول الرئيس بوتفليقة عبر مشروع "الوئام الوطني" وحقق نصف نجاح، ولا نعتقد أن هناك طريقاً للجزائريين سوى طريق السلام وفتح صفحة جديدة، على الرغم من استمرار قضية المخطوفين، وقضايا ضحايا الإرهاب... مخاوف من إتمام المصالحة هناك مخاوف عديدة من عدم نجاح المصالحة الجزائرية، خاصة في ظل وجود تيار استئصالي قويّ في الجزائر في الحكومة والجيش والنخب السياسية والإعلامية . فهذا التيار يعيق أي توجه جاد وحقيقي نحو المصالحة الوطنية، ويجد في ذلك تأييداً كبيراً من جنرالات في المؤسسة العسكرية، ومن سياسيين في الحكم والمعارضة وفي دوائر المال والاقتصاد. ومن المخاوف أيضاً انتشار الفساد في الجزائر بشكل غير مسبوق، وقد تشكلت خلال سنوات الأزمة مافيا فساد مالي وإداري ضخمة، تعمل على استمرار الأزمة؛ لأن الحياة الطبيعية من شأنها أن تقود إلى تفعيل المحاسبة والشفافية ومراقبة المال العام. كما أن حجم الضحايا، وضخامة المجازر والجرائم، التي ارتكبت خلال سنوات الأزمة، وحجم عدد المختفين، الذين لا يزال أهاليهم يطالبون بإلحاح لمعرفة مصيرهم، من شأنه أن يجعل الجهات ذات المصلحة في عدم فتح تلك الملفات تتخوف من المصالحة، ومما قد تقود إليه من محاسبة وفتح ملفات خطيرة، وبالتالي تقف عائقاً في وجهها. المشكلة كبيرة ومعقدة، وخيوطها متشابكة، بحيث لا يمكن حلها بين عشية وضحاها، ويُذكر للرئيس بوتفليقة أنه وضع البلاد على طريق المصالحة، وأن ما تم تحقيقه من أمن واستقرار نسبيين هو المقدمات الضرورية لما سيتلوه من إصلاح سياسي. بوتفليقة حريص على تحقيق إنجاز تاريخي، في دورته الرئاسية الحالية، ونجاحه في الوصول إلى المصالحة الوطنية من شأنه أن يقوّي موقعه السياسي على رأس النظام الجزائري في مواجهة الجنرالات، الذين يضيقون به ذرعاً، منذ اتهمهم بالمسؤولية عن أعمال العنف في البلاد، وأفضل وسيلة للتخلص من ضغوطهم عليه إنما يكون بالاعتصام بالمزيد من التأييد الشعبي، من خلال إقرار المصالحة الوطنية، التي ينشدها السواد الأعظم من الجزائريين. المصدر : الاسلام اليوم