في هذا الشهر تمر علينا الذكرى الأولى للخطاب الذي وجهه الرئيس باراك أوباما من القاهرة، والذي سعى من خلاله لبدء عهد جديد من العلاقات بين الولاياتالمتحدة والمسلمين في أرجاء الدنيا، عهدٍ مبنيٍّ على المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل. بَيْد أنه وبعد مرور عام أدرك الجميع أن ترجمة الوعود إلى واقع أمر صعب المنال، وإذا كنا قد ثَمَّنَّا جهود أوباما الحثيثة في تغيير خطاب بلاده فيما يتعلق بسياستها الخارجية نحو العالم الإسلامي، إلا أن الواقع يشير إلى أن الناس يتوقعون منه شيئا أكبر من مجرد البيانات. ولعل من المفيد أن نستدعي الروح الجديدة التي صاحبت خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في جامعة القاهرة العام الماضي، ونتدارس سويا كيفية الدفع بتلكم النوايا الحسنة والأمنيات الطيبة إلى الأمام، وترجمتها إلى برامج عملية تهدف إلى تجاوز مفهوم الحوار إلى مفهوم الشراكة. ومن هذا المنطلق أود التأكيد على جملة من الحقائق التي تمثل معالم استرشادية في طريق الشراكة البنَّاءة بين العالم الإسلامي والولاياتالمتحدةالأمريكية: -إن الإسلام الذي تعلمناه وتربينا عليه في شبابنا دينٌ يدعو إلى السلام والرحمة، وأول حديث نبوي يتعلمه أي طالب للعلم الديني: "من لا يرحم لا يُرحم، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء". وفَهْمُنا للإسلام ينبثق من فَهْمٍ معتدل صافٍ للقرآن: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}. وعندما قال الله: {لِتَعَارَفُوا} لم يكن مراده تعالى أن يقتل بعضُنا بعضًا، فكل الأديان متفقة على حرمة قتل الأبرياء. وإننا إنما أُمِرنا بالتعاون على نحو بنَّاءٍ.. {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}. -والسواد الأعظم من المسلمين عبر تاريخ الإسلام الطويل قد انخرطوا في تنمية مجتمعهم وبناء الحضارة الإنسانية. إننا نرى أنفسنا كمسلمين أناسًا استوعبوا تعددية الحضارات، فقد تعرضنا واستوعبنا حضارات فارس والهند والصين واليونان وضممناها لحياتنا الثقافية والفكرية، وأفدنا منها جميعا كما أضفنا إليها. فالإسلام قادر على أن يعيش في كل العصور، وأن يبني الجسور مع كل الحضارات، وهذا ما أكده التاريخ وما أكدته المصادر الإسلامية على جميع مستوياتها، وتضع الحضارة الإسلامية الناس والعباد فوق أماكن العبادة، فالإنسان فوق البنيان. هذا المنظور الإنساني والعالمي لا يسمح لنا باعتبار أنفسنا فوق من عدانا من الخلق. -لقد أَمْسَتِ الحاجةُ إلى الحوار بين أتباع الأديان والثقافات المختلفة أشدَّ إلحاحًا في ضوء تلك المشكلات التي عكرت صفو العلاقات بين الشعوب والمجتمعات. فالحوار ينطلق بالأساس من الاعتراف بالهويات والخصوصيات، مع تجنب المغالاة في الاعتزاز بهما كيلا يتحولا إلى بُغض الآخرين ومعاداتهم، وربما سفك دماء المخالف في الدين أو الثقافة. والحوار كذلك مبني على التعددية الدينية والتنوع الثقافي، وليس غايةُ الحوار إفحامَ الآخر وقهرَه، وإنما هو محاولة لفهمه والتعرف عليه؛ فالقرآن يؤكد على أن من رحمة الله تعالى بعباده أن جعلهم مختلفين دينيًّا وعرقيًّا وثقافيًّا، وإلا لما كان خلقهم الله على هذا النحو من التنوع. يقول تعالى: }وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَالِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ{ -إن عالمنا يتغير بسرعة فاقت المعتاد، فقد صرنا أكثر قربا من خلال السفر والهجرة والتجارة والاتصالات والتكنولوجيا، ولكننا مع هذا القرب أصبحنا متشرذمين من وجوه أخرى. إن الدول لم تعد في اتصال دائم فحسْب، وإنما صارت هذه الدول مجمعًا للعديد من الثقافات والتنوعات، وهذه الظاهرة قد يراها بعضهم مدعاة للاحتفاء، وربما رآها بعضهم الآخر أمرًا مُرْبكًا محيِّرًا وهذا إنما يؤكد على الحاجة إلى مساحة أوسع من التعاون، وإلى تعزيز التفاهم والاحترام المتبادلين، وليس هذا أمرا تَرَفِيًّا ولكنه ضرورة حتمتها حاجتُنا إلى تحقيق السلام والعدل بمعناهما الشامل. إن بإمكان الحوار البناء إزالة التوتر وتهدئة الأوضاع، وبإمكانه تعزيز التصالح بعد الصراع. إن الحوار البنَّاء قوة تُعين على منع وإدارة وحل الصراعات، كما تأخذنا نحو التعايش السلمي، ذلك الأمل الذي يصبو إليه الجميع؛ بَيْد أن هذه الغاية تستلزم جهدًا كبيرًا على عدة أصعدة، فهناك حاجة ماسة إلى حماية التنوع الثقافي ولا بد من أن يكون التعليم في صدارة الاهتمامات لما له من تأثير بالغ، فعلينا أن نعزز الأنظمة التعليمية حتى يستفيد الشباب من التنوع الثقافي وقبول الآخر، وعلينا أن نشكل شبكة كبيرة حتى تكون الحلولُ محصلةَ الجهود المتضافرة لكل من الحكومات والمجتمع المدني والإعلام والقيادات الصغيرة.. وغيرهم. وعلينا كذلك أن نسعى إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة التي غالبا ما تفسد علاقاتنا بالآخر.من ذلك قضية وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية، دور الشريعة، حقوق الأقليات.. فلابد من مناقشة مثل هذه القضايا مناقشة جيدة، مع فهمها في أطرها و أسسها التاريخية والثقافية والدينية. أما وضعية المرأة التي يعرفها الغرب باسم "قضية المرأة"، في حين أن الأمة الإسلامية لم تعرف في تاريخها ما يسمى ب "قضية المرأة" لا من ناحية خصائصها ووظائفها التي أقامها الله تعالى فيها، ولا من ناحية علاقتها بالرجل في أنهما معًا أساس قيام الأسرة الصالحة ونواةُ بناء المجتمع الرشيد، ولا من ناحية حقها في إبداء الرأي في شئون الأمة أو المشاركة الاجتماعية والسياسية فيها. إن مكانة المرأة في الإسلام لم تقتصر على كونها أولَ مؤمنة في الإسلام (السيدة خديجة رضي الله عنها) وأولَ شهيدة (السيدة سمية رضي الله عنها) وأولَ مهاجرة (السيدة رقية مع زوجها سيدنا عثمان رضي الله عنهما) بل تعدت مكانتُها ذلك عبر العصور، فحكمت المرأةُ، وتولت القضاءَ، وجاهدت، وعلَّمت، وأفتت، وباشرت الحسبة، وشاركت بالرأي، وساهمت في بناء المجتمع، وغير ذلك الكثير مما يشهد به تاريخ المسلمين. وهذا ما نؤكد عليه في الفتاوى الصادرة عن دار الإفتاء المصرية في حق المرأة في الكرامة والتعليم والعمل وتولي المناصب السياسية وإدانة العنف بكافة أشكاله في معاملتها. إننا نريد فتح قنوات دائمة للحوار المتواصل العلمي والثقافي والاقتصادي والتكنولوجي بيننا وبين الولاياتالمتحدة، و نريد أيضا تنشيط البحث العلمي بيننا، حيث أشار الرئيس أوباما في خطابه إلى أن المجتمعات الإسلامية منذ قديم الزمان، أثبتت أنها تستطيع أن تتبوَّأ مركزَ الطليعة في الابتكار والتعليم، وبيَّنَ أنه لا يمكن لأي استراتيجية للتنمية أن تعتمد على الثروة فقط، وأن التعليم والابتكار هما الأهمُّ من أجل التقدم طويل المدى، ولا يتم هذا إلا من خلال بيئة محيطة تحترم الشرعية الدولية والخصوصيات الدينية والسياقات الثقافية للشعوب، فعلى سبيل المثال يجب أن تكون السياسات الإصلاحية نابعة لا تابعة، أي أنها من أجل أن تدوم ويكون لها الأثر الفاعل في أرض الواقع، لا بد أن تنبع من واقع مجتمعها وإطاره الثقافي، وقناعاتِ أهله ورؤاهم للكون والإنسان والحياة وعقائدِهم الموروثة وأديانِهم التي هم عليها، وبدون ذلك فإن سياسات الإصلاح لا تدوم ولا تكون مؤثرة تأثيرًا حقيقيًّا في الواقع المعيش. - وأمامنا أيضًا قضية المرجعية العالمية للمسلمين وهي أمر في غاية الأهمية، تستطيع منظمة المؤتمر الإسلامي -بما لديها من مجمع الفقه بجدة، وهو مؤسسة عالمية إسلامية عظيمة تمثل كل العالم الإسلامي- أن تقوم بذلك الدور، خاصةً إذا ما تلقت المساعدة والمعاونة العلمية من مؤسسات عالمية كالأزهر الشريف ومجمع البحوث الإسلامية. - ولقد بدأنا في مصر في دفع العمل المدني لا من أجل الخير وفعل الخير فقط، بل أيضًا من أجل التنمية في مجالات الصحة والتعليم، والبحث العلمي، والتكافل الاجتماعي، وشئون الحياة المختلفة من فنون وآداب ورياضة؛ لأننا نؤمن بدين يؤمن بالتعمير وينهى عن التدمير. -يجب أيضا أن تكون السياسة الخارجية المتزنة أساسًا لتحسين العلاقات، فبالنسبة للعالم الإسلامي -وخاصة عند علماء الدين- من الضروري سيادة القانون في أوقات النزاع، ولا بد من وجود جهد منسَّقٍ من كلا الجانبين لاحترام القانون الدولي وقرارات الأممالمتحدة. ومع إعلاء قيمة القانون تَسُود العدالة ولا يستطيع أحدٌ الاختباءَ وراء ذرائعَ كاذبة ويرى الرأي العام الإسلامي ضرورة التطبيق الفوري لذلك على قضية الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ورفع المعاناة عن الشعب الفلسطينى. إننا جميعا مدركون أن إقامة السلام العادل والشامل في فلسطين سوف يكون له أبلغ الأثر في العلاقات بين الثقافات والأديان، والأكثر من هذا أن السلام العادل حتمي لنجاح أى مبادرة تسعى لتحقيق التقارب بين أمريكا والعالمين العربي والإسلامي. لست في شك من أن مسئولية تحسين العلاقات بين العالم الإسلامي والولاياتالمتحدة تقع على كاهل الجانبين، وأشعر أن هذا ليس أمرًا ممكنًا فحسب، ولكنه الطريقة الوحيدة التي تمكننا من بناء عالم أكثر إشراقًا وازدهارًا لأطفالنا وأحفادنا. وبالتعاون والاحترام لا شيء يستحيل على الإنسان. *صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية (الإسلام اليوم )