"ضياع الدور العربي وتناثره، وضعف الموقف العربي وتَهرُّؤه، وانقسام الصفّ الفلسطيني وتَبَعْثُره، أدَّت كلها إلى سياسة اجترأت على العرب تقوم على الاستخفاف والاستغلال (..) إنّ الحياة الدولية مثل الحياة الفردية مَن يَحترِم فيها نفسه يُحترَم، ومَن يهُن يسهل الهوان عليه". بهذه الكلمات وصف عمرو موسى (الأمين العام للجامعة العربية) الواقع العربي، خلال كلمته أمام اجتماع طارئ لوزراء الخارجية العرب إبَّان العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة نهاية 2008، ويبدو أنّ هذا المشهد هو ما دفع موسى خلال القمة العربية الأخيرة في طرابلس إلى أن يؤكِّد صراحةً ما ألمح إليه من قبلُ بشأن رغبته في التقاعد مع نهاية فترته الحالية في مايو المقبل، الأمر الذي أعاد الجدل من جديد، ليس فقط بشأن مطالبة بعض الدول العربية بتداول هذا المنصب وكسر الاحتكار المصري له، باعتبارها دولة المقرّ، وإنّما أيضًا عما إذا كانت القاهرة قادرة على طَرْح شخصيات مرموقة تحظى بقبول عربي، بما يجعل المطالبين بتداول المنصب يسحبون ترشيحاتهم المضادة. وإذا كانت مصادر مُقرّبة من موسى عَزَتْ رغبته في التقاعد لكونه "غير راغب وغير قادر في ظل حالة التشرذُم العربي على أن يستمر في مهام منصبه"، إلا أنه لا يمكن اعتبار ذلك قرارًا نهائيًا؛ فالقاهرة ربما تضغط عليه للقبول بولاية جديدة لأجل تجنيب العلاقات العربية مزيدًا من "الانقسام والتشرذم"، كما أن الدول العربية المطالبة بتداول المنصب قد تجد في بقاء موسى "أخفّ الأضرار" إذا ما فشلت- بداية- في إقرار مبدأ "التداول" ثم جاءت الترشيحات المصرية أقل ثقلًا وقبولًا من موسى. مناكفات لا إصلاح ومن اللافت أنّ معظم المطالبات بتداول المنصب، والتي تتزعمها الجزائر وقطر وسوريا، تأتي في سياق المناكفات السياسية مع القاهرة، أكثر من كونها نتاجًا لرغبةٍ في تطوير الجامعة وتفعيل مؤسساتها، كما أنها تعبِّر أيضًا عن تراجع الثقل والدور المصري على صعيد العمل العربي المشترك، خاصَّة أن القاهرة تخلت في السنوات الأخيرة عن دورها التوافقي، لتصبح طرفًا في إطار سياسة المحاور التي قسّمت العرب إلى فريقين: معسكر للاعتدال، ومحور للممانعة. وقد حاول موسى الالتفاف على حالة "الضعف والتشرذم" الرسمي العربي، والذي يتجلى بصورة صارخة في تخلُّف العديد من الدول عن دفع حِصَّتها في ميزانية الجامعة، وذلك عبر إيجاد أُطُر وآليات لتفعيل العمل الأهلي العربي، فحاول تعيين رموز ومفكرين بارزين كمتحدثين باسم الجامعة، كما دعم مشروع إنشاء برلمان عربي مشترك، فضلًا عن محاولته إيجاد آلية للتواصل بين الجامعة والمغتربين العرب، إضافةً إلى سعيه للقفز على الخلافات العربية المحتدمة عبر الانخراط في علاقات تعاون مع مؤسسات ودول إقليمية، مثل الحوار العربي اللاتيني، لكن كل هذه المحاولات لم تحقِّق الثمار المرجوة؛ لأن العرب ذهبوا إليها حاملين كل مشاكلهم وخلافاتهم المزمنة. ولذا فإن بقاء موسى أو قدوم بديل له لن يغيِّر من واقع العرب وجامعتهم شيئًا؛ لأن الأمر مَنُوط بتوافر النية والعزم لدى القوى العربية الفاعلة على تفعيل الجامعة ومؤسساتها، لكن ذلك لا ينفي الحاجة إلى وجود شخصية قوية وفعالة في مثل هذا المنصب، للإبقاء على "الرمق الأخير" الذي ما زال يدبُّ في الجسد العربي، وإنعاشه إذا ما توفرت الظروف والإمكانيات اللازمة لذلك. سيناريوهات وبشكل عام فإنّ هناك عدة سيناريوهات لمستقبل منصب الأمين العام للجامعة العربية، أولها بقاء موسى في المنصب لعامين آخرين، كما سبقت الإشارة لذلك، ويبقى تحقُّق هذا السيناريو رهنًا بعدة عوامل، فالقاهرة قد تدفع بمرشح جديد، خاصة أن الآونة الأخيرة شهدت تباينًا في المواقف بين موسى ووزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط بشأن العديد من الملفات، ولعلّ آخرها التحفُّظ المصري غير المُعْلَن على "رابطة الجوار العربي" التي اقترحها موسى خلال قمة طرابلس، كما أن موسى يبدى تحمسًا لفتح حوار عربي مع إيران، وهو ما تتحفظ عليه القاهرة، إضافة إلى رفض القاهرة لمحاولات موسى الانخراط في جهود المصالحة الفلسطينية. العامل الثاني يتعلق بموسى نفسه؛ حيث إنه ألمح مؤخرًا لإمكانية ترشحه لرئاسة مصر في انتخابات عام 2011، ويبدو أن هذا الأمر– في الغالب- رهنًا بعدم خوض الرئيس مبارك لتلك الانتخابات؛ لأن ذلك يعزِّز من حظوظ موسى أمام مرشح الحزب الوطني أيًّا كان، وفي هذه الحالة فإن قرار التقاعد سيكون نهائيًا. وإذا ما انتفى هذان العاملان، وقامت القاهرة بترشيح موسى، وتجاوب هو مع ذلك الترشيح، فإن فرص التجديد له تُعَدّ قوية للغاية، خاصة أن هناك قوى عربية مؤثرة، مثل السعودية، سوف تلقي بثقلها وراء هذا الترشيح، كذلك فإن الدول المطالبة بتداول المنصب أكدت مرارًا أن الأمر لا علاقة له بشخص موسى، الذي يَحْظَى بعلاقة جيدة مع معظم قادتها كما هو الحال مع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة والسوري بشار الأسد. بديل مصري أما السيناريو الثاني فهو أن تقوم القاهرة بترشيح خلفية موسى، وهنا يكمن المأزق المصري الحقيقي؛ فالقاهرة ربما تمتلك الكثير من الحجج والمبررات للإبقاء على احتكارها للمنصب، وقد تجد لذلك تأييدًا من دول عدة، لكن ذلك لا يعني الموافقة على أي شخص تُرشِّحه القاهرة دون توقف أو تمحيص، فهذا المرشح يجب أن يمتلك مؤهلات وخبرات تجعله ندًّا قويًّا للأسماء البديلة التي قد تطرحها الدول المطالبة بتداول المنصب، فلم يعد مقبولًا أن يتحول المنصب إلى "مكافأة نهاية خدمة" لوزراء ومسئولين مصريين أُحِيلوا للتقاعد. وفي هذا السياق تبدو بورصة الترشيحات المصرية محدودة للغاية، فهناك وزير الخارجية الحالي أحمد أبو الغيط، وهو دبلوماسي مخضرم، حيث مثّل مصر في الكثير من المواقع، لعلّ أبرزها تولّيه منصب سفير مصر لدى الأممالمتحدة، قبل أن يتقلد وزارة الخارجية. لكن مواقف أبو الغيط وتصريحاته المتشنجة قد تدفع بعض الدول لوضع "فيتو" على تولِّيه المنصب، خاصة أن مواقفه كثيرًا ما تعكس نفورًا من "النهج العروبي"، والبعض يستشهد بتصريحه الشهير هو "كسر أرجل أي فلسطيني يعبر الحدود المصرية مع قطاع غزة"، فضلًا عن ملاسناته المتكررة مع أكثر من دولة عربية، مثل سوريا وقطر، أما مواقفه من حركات المقاومة مثل حماس وحزب الله فهي معروفة للجميع. شهاب الأقرب ويُعدّ مفيد شهاب (وزير الشئون القانونية والبرلمانية) أبرز الأسماء المصرية المرشحة لخلافة موسى؛ فهو أستاذ قانون دولي مرموق، ويتمتع بالحنكة السياسية ومشهود له بالشخصية المتزنة والقدرة على التفاوض وصياغة مواقف توافقية، فضلًا عن ميوله العروبية؛ حيث انخرط مبكرًا في التنظيم الطليعي إبّان الحقبة الناصرية، وإن كان عدَّل مساره- فيما بعد- للتناغم مع نظام الحكم الحالي. نقطة ضعف شهاب تكمن في أنه غير معروف عربيًّا إلا في إطار النخب الأكاديمية، كما أنه ليس له خلفية دبلوماسية كما هو الحال لمعظم من شغلوا المنصب، وإن كانت القاهرة قد كلَّفته بمهام دبلوماسية وسياسية عدة، حيث مثّلها أمام قمتي دمشق والدوحة العربيتين، وأخيرًا تولى عرض الملف المصري أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. وإضافة إلى أبو الغيط وشهاب، هناك أسماء أخرى حظوظها أقل مثل مصطفى الفقي (مساعد وزير الخارجية المصري السابق)، وهو مفكر يصف نفسه بالقومي، لكن مواقفه متذبذبة وزلات لسانه قاتلة، ووزير الخارجية السابق أحمد ماهر، وهو دبلوماسي مُحنَّك، لكنه توارَى عقب خروجه من الوزارة لأسباب قيل– حينئذ- إنها صحية، وهناك أيضًا ماجد عبد الفتاح ممثل مصر في الأممالمتحدة، والسكرتير السابق للرئيس مبارك للمعلومات. سيناريو التداول أما السيناريو الأخير فهو أن تنجح الدول المطالبة بتداول المنصب في تمرير موقفها، اعتمادًا على أن المعادلة التي سمحت لمصر باحتكار هذا المنصب لم تَعُدْ قائمة، فدور القاهرة لم يَعُد بنفس فعالية وثقل "مصر عبد الناصر"، كما أنّ السياسة المصرية في العقدين الآخرين انكفأت على نفسها، فضلًا عن تورُّطها في معارك جانبية تارة مع قطر وتارة أخرى مع سوريا، فضلًا عن مواقفها الحادة من "حماس" و"حزب الله". وفي إطار هذا السيناريو توجد تسريبات حول إمكانية الدفع بوزير الخارجية السعودي سعود الفيصل أمينًا عامًا للجامعة لولايةٍ واحدة، بهدف إفشال الطرح الجزائري، الذي يتوقع أن يحظى بدعم دمشق والدوحة، بتعيين عبد العزيز بلخادم الممثل الشخصي للرئيس بوتفليقة. لكن السعودية نفت تلك التسريبات بشدة، مؤكدة أن الفيصل "مستمر في منصبه الحالي وليس هناك نية على الإطلاق أن يترشح" لهذا المنصب. وبشكل عام فإنّ المنصب إذا ما خرج من أيدي المصريين فإنه في الغالب سوف يذهب إلى "شخص توافقي"، بمعنى أنه لن يكون من رعايا الدول التي دعمت فكرة "التداول"، وهنا تبدو حظوظ مرشحي الدول غير الفاعلة في معسكري "الاعتدال" و"الممانعة" هي الأقوى، رغم أن ذلك يعني أن الأمين العام القادم سيكون من دول "الأطراف" وليس "المركز"، مما يجعله أضعف بكثير ممن سبقوه في هذا المنصب، كما أن ذلك سيكون– للأسف- نذير شؤم بأن الجامعة العربية تنحدر إلى "هُوّة جديدة" بعدما اعتزل الكبار أدوارهم التاريخية. المصدر: الإسلام اليوم