ما إن ألمحت واشنطن بالتدخل العسكري ضد النظام السوري على خلفية المجرزة الكيماوية في الغوطة الشرقية في 21 أغسطس, إلا وأكد كثيرون أن هدف الإدارة الإمريكية ليس إسقاط الرئيس بشار الأسد, الذي يمثل بقاءه مصلحة لإسرائيل, وإنما تغيير المعادلة على الأرض فقط. فمعروف أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما صرح في أغسطس من العام الماضي بأن استخدام النظام السوري للأسلحة الكيمياوية "خط أحمر", ولذا فإنه وجد نفسه في حرج بالغ وباتت مصداقيته على المحك بعد مجزرة الغوطة الشرقية. ورغم أن واشنطن عززت أسطولها البحري في البحر المتوسط استعدادا لضربات محتملة ضد سوريا, إلا أن قناة "الجزيرة" نقلت عن لاري كورب المساعد السابق لوزير الدفاع الأمريكي قوله في 25 أغسطس إن بلاده قد تفكر في الضربات الجوية واستخدام صواريخ كروز لتوصيل رسالة للأسد من أن استخدام الأسلحة الكيمياوية يعد انتهاكا للقانون الدولي، لكن دون نشر قوات برية داخل الأراضي السورية. وبدوره, قال ريتشارد وايتس من مركز التحليل السياسي والعسكري في معهد هدسون الأمريكي إن مخططات البنتاجون تقضي بتوجيه ضربة على غرار ما حدث في السودان عام 1998 أو في كوسوفو عام 1999، مشيرا إلى أن الهدف ليس إسقاط النظام في سوريا وإنما إضعافه فقط. وتحدث وايتس في مداخلة مع "الجزيرة" عما سماها ضربات أمريكية محدودة ستوجه ضد النظام السوري باستخدام صواريخ كروز، مشيرا إلى أن إدارة أوباما تريد ضمان الحصول على دعم غربي وعربي، ومن فرنسا خاصة ودول إقليمية مثل تركيا وقطر والسعودية. وأكد مجددا أن الهدف من أي عمل عسكري ليس إسقاط نظام الأسد وإنما توجيه رسالة تحذير له وحرمانه من استخدام الأسلحة الكيمياوية. كما أكد فاز جرجس من مركز دراسات الشرق في جامعة لندن أن الولاياتالمتحدة لن تكرر تجربة العراق وأفغانستان في سوريا، وأضاف أن الإدارة الأمريكية وحلفاءها لديهم قناعة بأن تكون هناك ضربات جوية وصاروخية تستهدف البنية الاستراتيجية لنظام الأسد، مشيرا إلى أن الهدف من أي عمل عسكري لن يؤدي إلى إسقاط النظام السوري, وإنما إلى تغيير المعادلة على الأرض, وذلك لن يحل مشكلة هذا البلد. ويبدو أن ردود الفعل الروسية والإيرانية على تلويح واشنطن بالتدخل العسكري ضد نظام الأسد تدعم أيضا صحة ما سبق, وترجح أن الأمر لن يخرج عن ضربات محدودة لحفظ ماء وجه أوباما فقط, دون مبالاة بمعاناة الشعب السوري المتفاقمة, خاصة أن إسرائيل لها مصلحة قوية في بقاء الأسد, الذي طالما حافظ على الهدوء في الجولان السوري المحتل, كما أن الغرب يخشى بقوة وصول "إسلاميين متشددين" للسلطة بعد الإطاحة بالأسد. وكان وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل أكد في 25 أغسطس أن البنتاغون مستعد للخيار العسكري بسوريا في حال تلقى أمرا من الرئيس باراك أوباما بذلك ردا على الهجوم الكيمياوي الذي استهدف منطقة الغوطة الشرقية بريف دمشق وأوقع مئات القتلى. ونقلت شبكة "سي إن إن" الإخبارية الأمريكية عن هيغل قوله في تصريحات لصحفيين رافقوه إلى ماليزيا, التي يزورها ضمن جولة في جنوب شرق آسيا, إن أوباما طلب من وزارة الدفاع إعداد خيارات لجميع الحالات الطارئة، مضيفا أن الوزارة أعدت تلك الخيارات، وأنها مستعدة للقيام بأي خيار إذا قرر أوباما, القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمريكية, استخدامه. وفي تصريحات أخرى عقب اجتماعه في كوالالمبور بنظيره الماليزي هشام الدين حسين، أشار الوزير الأمريكي إلى أن بلاده بصدد جمع مزيد من المعلومات بشأن الهجوم الكيمياوي في سوريا، وقال إن الرد الأمريكي سيكون واضحا بعد جمع مزيد من المعلومات. وكان مسئول في وزارة الدفاع الأمريكية قال أيضا في 24 اغسطس إن بلاده عززت قطعها البحرية في البحر المتوسط بمدمرة رابعة مجهزة بصواريخ "كروز"، وذلك بسبب تطورات الأوضاع في سوريا. ونقلت وكالة "رويترز" عن المسئول ذاته قوله إن الضربات الأمريكية المحتملة ستكون بواسطة صواريخ "كروز" من البحر المتوسط. وفيما اجتمع قادة جيوش أميركا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا وتركيا والسعودية وقطر والأردن في العاصمة الأردنية عمان في 25 أغسطس للتنسيق للعمل العسكري المحتمل ضد سوريا, ذكرت صحيفة "الإندبندنت" البريطانية أن تدخلا عسكريا دوليا ضد نظام الأسد بدأ يلوح في الأفق، وأن أوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون تباحثا على الهاتف أربعين دقيقة في 25 أغسطس. وأوضحت الصحيفة أن واشنطن أرسلت سفينة حربية رابعة مزودة بصواريخ كروز إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط، وأن العملية قد تشمل إقامة منطقة عازلة لحماية المدنيين السوريين، وشن حملة جوية على قوات الأسد. وأشارت إلى أن أوباما اجتمع في البيت الأبيض مع مستشاريه للأمن القومي لبحث الخيارات المتاحة للرد على الأسد، مضيفة أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ووزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل الموجودين في آسيا شاركا في الاجتماع من خلال دائرة اتصال مغلقة. وفي المقابل, حذرت سوريا من أن مهاجمتها بحجة استخدام السلاح الكيمياوي ضد شعبها "ستحرق المنطقة", وقال وزير الإعلام السوري عمران الزعبي في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء السورية الرسمية في 25 أغسطس إن تدخلا عسكريا أمريكيا محتملا في بلاده سيترك تداعيات خطيرة في مقدمتها "فوضى وكتلة من النار واللهب ستحرق الشرق الأوسط برمته". وأضاف أن الاعتداء على سوريا لن يكون نزهة لأي طرف في ظل التوازنات الإقليمية والمعطيات الحقيقية على الأرض. وبدورها, حذرت روسياالولاياتالمتحدة مما وصفته "تكرار أخطاء الماضي" والقيام بعمل عسكري منفرد في سوريا، وقالت إن ذلك سيترك أثرا مروعا على الوضع الأمني في الشرق الأوسط. فيما أكدت إيران أن تجاوز واشنطن الخط الأحمر في سوريا ستكون له تداعيات على الولاياتالمتحدة. وقالت الخارجية الروسية في بيان لها :"إن أي عمل عسكري سيؤثر على الجهود الأمريكية الروسية المشتركة لعقد مؤتمر جنيف - 2 حول السلام في سوريا". وأضاف البيان "مرة أخرى نحث الولاياتالمتحدة على عدم تكرار أخطاء الماضي. وألا تسمح بأعمال تخالف القانون الدولي، أي بعمل عسكري منفرد يتجاوز الأممالمتحدة لأنه سيؤدي إلى مزيد من التصعيد في سوريا، وسيؤثر على الوضع المتفجر بالفعل في الشرق الأوسط بشكل مروع إلى أقصى حد". وتابعت الخارجية الروسية "نتذكر ما حدث قبل عشرة أعوام، حين قامت الولاياتالمتحدة -متجاوزة الأممالمتحدة- بمغامرة يعلم الجميع بنتائجها اليوم، بذريعة معلومات كاذبة عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق". وفي السياق ذاته, قال مساعد قائد أركان القوات المسلحة الإيرانية مسعود جزائري :"إذا تجاوزت واشنطن الخط الأحمر في سوريا، فستكون لذلك تداعيات شديدة على الولاياتالمتحدة". وأضاف جزائري "الحرب الإرهابية الحالية في سوريا دبرت في الولاياتالمتحدة والدول الرجعية بالمنطقة ضد جبهة المقاومة في وجه إسرائيل، ورغم ذلك حققت الحكومة والشعب السوري نجاحات كبيرة". وتابع "الذين يصبون الزيت على النار لن يفلتوا من انتقام الشعوب". ونقلت وكالة أنباء فارس الإيرانية عن رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجانى قوله أيضا في 25 أغسطس :"إن الدول المتغطرسة رأت أن الأحداث التي تشهدها المنطقة لا تسير وفق مصالحها، ومن هنا بدأت بوضع مخططات لإثارة القلاقل والفوضى وزعزعة الاستقرار وتأجيج نيران النزاعات في المنطقة". وتساءل لاريجانى "عما إذا كانت واشنطن قد جنت شيئا من حربها ضد أفغانستان والعراق حتى تقرع طبول الحرب في الشرق الأوسط مرة أخرى". وتتهم المعارضة السورية نظام الأسد باستخدام الغازات السامة في هجمات على الغوطة الشرقية بريف دمشق في 21 أغسطس، ما أوقع أكثر من 1400 قتيل وآلاف الجرحى، فيما وثق المرصد السوري لحقوق الإنسان سقوط 322 قتيلا. كما أكدت منظمة أطباء بلا حدود الدولية وفاة 355 شخصا من أصل 3600 نقلوا إلى مستشفيات في ريف دمشق، بعدما ظهرت عليهم "أعراض تسمم عصبي". وأشارت منظمة أطباء بلا حدود في بيان لها في 24 أغسطس إلى أنها رصدت عوارض مواد كيمياوية سامة على جثامين 355 سوريا، مشيرة إلى أن 3600 ظهرت عليهم العوارض نفسها. وجاء في البيان أن ثلاثة مستشفيات تقع في محافظة دمشق تتلقى دعما من منظمة أطباء بلا حدود، تلقت خلال أقل من ثلاث ساعات صباح الاثنين الموافق 21 أغسطس نحو 3600 مريض يعانون من عوارض سمية تضرب الجهاز العصبي, توفي 355 منهم. وقال البيان أيضا :"العوارض التي كنا شهودا عليها، والرسم البياني الوبائي لهذا الحدث الذي تجسد بتدفق كثيف لمرضى في وقت قصير جدا، وإصابة بعض المسعفين والعاملين الذين قدموا الإسعافات الأولية بالعدوى، كل ذلك يرجح بقوة حصول تعرض شامل لعنصر سمي يضرب الجهاز العصبي". واعتبرت المنظمة أن هذا الأمر "يشكل خرقا للقانون الدولي الإنساني, الذي يحظر تماما استخدام الاسلحة الكيميائية والبيولوجية"، لكنها لم تتهم أي طرف باستخدامه. وأضاف بيان أطباء بلا حدود "لقد عولج المرضى بدواء الأتروبين, الذي تقدمه منظمة أطباء بلا حدود ويستخدم لمعالجة العوارض السمية التي تضرب الجهاز العصبي، والمنظمة تقوم بكل ما بوسعها حاليا لتعويض المخزون, الذي استهلك من هذا الدواء في المستشفيات". وأعلنت الأممالمتحدة أن خبراءها باشروا في 26 أغسطس التحقيق في التقارير حول استخدام أسلحة كيمياوية في الغوطة الشرقية، بعد بضع ساعات من موافقة الحكومة السورية على ذلك، لكن واشنطن, التي اعتبرت أن استخدام الأسلحة الكيمياوية بات "شبه مؤكد", انتقدت القرار السوري، وقالت إنه "متأخر ويفتقد للمصداقية". وبدورها, قالت بريطانيا إن الأدلة على الهجوم الكيمياوي في ريف دمشق "قد تكون دمرت بالفعل قبل زيارة مفتشي الأممالمتحدة للموقع". ونقلت وكالة "فرانس برس" عن وزير الخارجية البريطاني وليام هيج قوله :"يجب أن نكون واقعيين الآن بشأن ما يمكن لفريق الأممالمتحدة تحقيقه"، مشيرا إلى تقارير لنشطاء المعارضة عن أن الجيش النظامي قصف المنطقة في الأيام القليلة الماضية. وأضاف هيج "الحقيقة أن كثيرا من الأدلة ربما يكون دمره ذلك القصف المدفعي، وقد تكون أدلة أخرى تلاشت على مدى الأيام القليلة الماضية وأدلة أخرى ربما يكون تم التلاعب بها". وكان الجيش السوري الحر والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ذكرا أن نظام الأسد نفذ الهجوم بالأسلحة الكيمياوية على المدنيين بالغوطة الشرقية, ردا على استهداف موكب الأسد في الثامن من أغسطس. وأكدت المعارضة السورية أن لديها أدلة تفصيلية عن اجتماع ضم الأسد وقادة عسكريين تقرر فيه ضرب الغوطة بالسلاح الكيمياوي، وقالت إن النظام السوري بصدد تلفيق الأكاذيب عبر نفيه ارتكاب المجزرة. ويجمع كثيرون أن الأسد استغل انشغال العالم بالأزمة المتفاقمة في مصر لتنفيذ تلك المجزرة" الكيماوية", خاصة بعد تقدم الثوار بشكل كبير في العاصمة دمشق.